: آخر تحديث

الخلاف الإيطالي الفرنسي.. إلى أين؟

73
71
79
مواضيع ذات صلة

ان الصراع القائم بين فرنسا وايطاليا ليس هو بجديد على أوروبا، وإنما له تاريخ طويل يمتد إلى القرون الوسطى. ورغم أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وانضمام الدول الأوروبية إلى السوق الاوروبية المشترك ثم الاتحاد الأوروبي، الامر الذي أدى إلى احتواء مثل هذه الصراعات في وقت مبكر من قبل الدول الاخرى ومؤسسات الاتحاد. إلا أن ما يحدث اليوم، ومنذ فوز الأحزاب اليمينية في الانتخابات الوزارية في ايطاليا، ومنذ اندلاع تظاهرات "السترات الصفراء" في فرنسا أخذ الصراع منحى آخر، وذلك لأنه ليس بخلاف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يحله، إنه صراع ايديولوجي، ومن خلاله يطمح الطرفان إلى تحجيم الطرف الآخر وتقليل تأثيره أو امتداده في أوروبا.

فمن جهة تجد الحكومة الفرنسية، متمثلة بالرئيس ماكرون، أن صعود اليمين المتطرف علامة تذكر بفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وصعود هتلر وموسيليني إلى السلطة، وتحذر في نفس الوقت من عواقب هذه الحالة. الأمر الذي ترى فيه أحزاب اليمين واليمين المتطرف أن المؤسسة السياسية القائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولحد الآن لم تستطع أن تلبي مطالب الشعوب الأوروبيةولن تستطيع، بل إن هذه المؤسسة وأحزابها التقليدية، مثل المحافظون والاشتراكيون الديمقراطيون والمسيحيون الاشتراكيون، قد ابتعدوا بمرور الوقت عن واقع البلدان الاوروبية وبذا أصبحوا عير صالحين لتمثيل البلاد. كذلك وإن كل ما أسست له هذه الأحزاب خلال السبعين عاما الماضية أصبح غير صالح. وهذا يشمل قوانين الدفاع عن حقوق الانسان والالتزام بمساعدة، الخ من القوانين التي سنت وثبتت في ذستور هيئة الامم المتحدة.

وللتعرف على بعد الخلاف الإيطالي الفرنسي اليوم علينا الرجوع قليلا في تاريخ هاتين الدولتين. والنظرة الأولى تجرنا إلى أن التقارب الحضاري، بما فيه الاجتماعي والسياسي والديني واللغوي الذي تتباين نسبته بين الدول الاوربية، بين فرنسا وايطاليا كبير وما يجمع فرنسا وايطاليا هو اكثر مما يجمع بين أي دولتين اخريتين في أوربا. فللدولتين تاريخا مشتركا يرجع الى العصور الوسطى، ولهما جذور مشتركة في الديانة الكاثوليكية وفي اللغة اللاتينية والحدود المشتركة اضافة إلى الكثير من العادات والتقاليد التي تجمع هاتين الدولتين أكثر مما تفرقهما. وخلال القرون الاخيرة تنازعتا على الحدود واقتسمتا الخسارة والنصر في حروب عديدة، انتهت في اقتسام الأراضي وتحديد الحدود التي نعرفها الآن، رغم ان هناك مناطق تتحدث الفرنسية ولكنها ضمت إلى ايطاليا بينما ضمت المقاطعة الايطالية نيس إلى فرنسا. 

ان التداخل بين هذين القوميتين، كما هو بين العديد من الدول الاخرى، يتسم بالمد والجزر تبعا لتغير الظروف السياسية والمصالح الاقتصادية. فاثناء حكم نابليون الثالث في القرن التاسع عشر ساعدت فرنسا اقتصاديا في توحيد الولايات والاقاليم الايطالية،وفي طرد النفوذ النمساوي وانشاء كونفدرالية ايطالية بدلا منه. ورغم ذلك نجد أنهما، فرنسا وايطاليا، يعودان للصراع من أجل السيطرة على شمال أفريقيا في اواخر القرن نفسه، ذلك الصراع الذي بدأ في تونس وانتهى بفوز فرنسا باحتلال تونس والجزائر، الامر الذي حذى بايطاليا للانضمام الى الحلف الثلاثي الذي ضم المانيا والامبراطورية النمساوية في نهاية القرن التاسع عشر. ولكن الخوف من النفوذ المتزايد لالمانية القيصرية جعل ايطاليا تعلق عضويتها في الحلف الثلاثي وترمي بنفسها في معاهدة سرية مع فرنسا وانكلترا مقابل ان تساعدها فرنسا في السيطرة على طرابلس ليبيا في عام 1900، وفي المقابل لم تواجه فرنسا أية منازعة من قبل ايطاليا في سيطرتها على المغرب.

واثناء اندلاع الحرب العالمية الاولى وجدت ايطاليا عروض انكلترا وفرنسا لاقتسام مخلفات الامبراطورية النمساوية والامبراطورية العثمانية اكثر اغراءا، ولذا التزمت بالحياد في بداية الحرب، الا انها سرعان ما اعلنت حيادها ثم خروجها من الحلف الثلاثي وانضمامها الى جانب انكلترا وفرنسا، مما ساعد في اندحار العدو المتمثل في المانيا والامبراطوريتين النمساوية والعثمانية معا عام 1917. ولكن مشاركة ايطاليا في الحرب كان عبئا كبيرا على فرنسا لعدم كفاءة الجيش الايطالي من ناحية وضعف تنظيمه من ناحية اخرى، ولذا لم تحظ ايطاليا بما تعهدت به انكلترا وفرنسا، وما حصلت عليه في نهاية الحرب لم يكن في المستوى الذي كانت ايطاليا تطمح اليه، واعتبرت نتائج الحرب إذلالا صريحا لإيطاليا الحليفة من قبل انكلترا وفرنسا المنتصرتين.

ان الخذلان الذي أصاب ايطاليا والخسارة التي حلت بالمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى أدى الى تزايد المد القومي الذي تطورإلى مد شوفيني فاشي في هذين البلدين خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وصعود الحزب النازي بقيادة هتلر في المانيا والحزب الفاشي بقيادة موسوليني في ايطاليا. أما تحالف موسوليني وهتلر فلم يكن إلا أحد نتائج هذه الحرب المتمثل بالشعور بالاذلال من قبل انكلترا وفرنسا الذي عم البلدين.

غير أن الحرب العالمية الثانية والدمار الذي تركته في اوروبا جعل الساسة الأوروبيين ينحوا منحى آخر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار النازية وانتحار هتلر وسقوط الفاشية باعدام موسوليني. وقد أرست نتائج الحرب لتأسيس خارطة جديدة للسياسة الأوربية يتم فيها ضمان السلام في القارة وارساء دعائم التعاون الاقتصادي بين دولها. وقد كانت ايطاليا بين الدول المؤسسة لمثل هذا التعاون الذي تجلى في تأسيس حلف الناتو الذي سيضمن السلام في هذه القارة من جهة، والذي سيقف في مواجهة المد الشيوعي المتمثل في الاتحاد السوفيتي وحلفاءه في أوربا الشرقية في نفس الوقت. كذلك كانت ايطاليا وفرنسا بين الدول الخمس الأولى التي ساهمت في تأسيس الاتحاد الاوربي لاحقا، وعملت هاتان الدولتان على تاسيس الـ G6، المنظمة التي تنظم التعاون بين الدول الصناعية الست الكبرى.

إلا أن رياح التغيير أخذت تعصف في العلاقات الايطالية الفرنسية مؤخرا، وبالتحديد عام 2018 بعد نجاح التحالف الحكومي في إيطاليا بين حزب "الرابطة أو العصبة- لا لييغ"  اليميني وحركة النجوم الخمس اليسارية الانتهازية، والموصوفة بالوصولية، والاثنان يشتركان في الرؤية الناقدة للاتحاد الاوربي ولعملة اليورو التي يرونها "جريمة في حق شعوبهم" يرتكبها الاتحاد الاوروبي. هذا التحالف الذي وجد قاعدته في موضوع الهجرة المتزايدة وأزمة اللاجئين التي يقف الحزبان ضدها بصرامة. وفي كلا الأمرين وقفت فرنسا كقطب معاكس لبرنامج الحكومة الايطالية الجديدة. أما ما عمق أكثر في الخلاف بين ايطاليا وفرنسا فهو القيود الاقتصادية على الميزانية السنوية التي فرضها الاتحاد الأوربي على إيطاليا والحرب الليبية التي حاولت فرنسا الانفراد في السيطرة عليها. كل ذلك مهد لمناوشات خطابية كانت تصدر من حكومة الدولتين ضد بعضهما. وجاء اتهام الرئيس الفرنسي ماكرون الحكومة الايطالية بعدم المسؤولية لرفضها دخول احدى السفن إلى الموانئ الايطالية وذلك لتواجد المهاجرين الافارقة على ظهرها، الذين انتشلتهم من البحر المتوسط في اطار تأزم العلاقة بين هاتين الدولتين. ولم يكن رد الحكومة الايطالية بأقل من نعت فرنسا بالنفاق، وذلك لتورطها في الحرب الليبية الاولى فقط لدعم مصالحها الاقتصادية ودون الاكتراث لما نتج عن تلك الحرب في تعرض اوربا لموجة جديدة من المهاجرين الافارقة تحملت ايطاليا العبء الاكبر منه. كذلك اتهمت الحكومة الايطالية فرنسا بعدم توقف الاخيرة عن سياستها الاستعمارية في افريقيا ونهب ثروات شعوب هذه القارة. ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل تعداه عندما انتقد الرئيس الفرنسي الحكومة الايطالية لاتخاذها موقف عدائي من ازمة المهاجرين وانفرادها بحلول خاطئة دون التشاور مع الدول الاوربية الاخرى، مما أدى الى تصريح سالفيني، نائب رئيس الوزراء الايطالي، باتفاقه التام مع رؤية حزب الجبهة القومية الفرنسي والذي تقوده مارين لوبان المتطرفة، واضاف أن فرنسا تحاول طمس الاجانب في التربة الايطالية. وباندلاع التظاهرات الشعبية في شوارع المدن الكبيرة في فرنسا والتي عرفت بـ "تظاهرات السترات الصفراء" اعلن رئيس الحكومة الايطالية دي مايو ونائبه سالفيني دعمهما التام لهذه الحركة، ولم يكتفو يذلك، بل وعدوا ايضا بتوفير الوسائل اللوجستية لهم. وقد ذهب رئيس الحكومة الايطالية إلى فرنسا والتقى مع ممثلين من حركة السترات الصفراء وصرح "ان رياح التغيير قد عبرت جبال الالب"، عندها وصل حجم تأزم العلاقات بين الدولتين الاوربيتين الى حد لم تشهده اوربا منذ فترة حكم موسوليني واندلاع الحرب العالمية الثانية.

من كل هذا، واستنادا الى التطورات السياسية الاخيرة في اوروبا، يمكن حصر الخلاف الفرنسي الايطالي في اطار الصراع الايديولوجي الذي لا يقتصر على هاتين الدولتين فحسب، وانما بدأ يجتاح القارة الاوروبية منذ بداية الالفية الحالية، والذي احتد بصعود المد اليميني القومي وبالذات المتطرف وفوز هذه القوى في الانتخابات الوزارية للعديد من الدول الاوربية، مثل ايطاليا، هنغاريا، بولندا، النمسا، أمام القوى الليبرالية التقليدية التي بدأت بالتراجع امامه. 

ان نتائج التصويت في العديد من الدول الاوروبية ضد مقترحات الاتحاد الاوروبي، كما حدث في هولندا والدانمارك، والتصويت لخروج المملكة المتحدة من هذا الاتحاد، كل ذلك يعد دليلا ساطعا لفشل الاتحاد الاوروبي في معالجة الازمات الملحة في اوربا، والاستمرار في سياسة الاتحاد الليبرالية التي دأبت على وضع مصالح رأس المال امام مصالح الشعوب، الامر الذي يتوقع له ان يُفَجِر غضبا جماهيريا في أي لحظة، كما نراه منذ نوفمبر السابق في تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا التي تطالب بعزل الرئيس الفرنسي ماكرون رغم تراجعه عن القوانين الاقتصادية التي اثارت هذه التظاهرات. كما وأن الحال في الدول الاوربية الاخرى ليس بافضل مما عليه في فرنسا، حيث تشهد اسبانيا نزاعا قوميا حول مقاطعة كاتالونيا وسحب الثقة من الحكومة الاسبانية يقود اليوم الى انتخابات جديدة لا تعرف نتائجها بعد، كذلك نفوذ اليمين القومي في الحكومة الدنماركية، وسيطرته على الحكومة النرويجية وتمتع اليمين المتطرف في السويد باكثر من خُمس اصوات الناخبين، وكذلك هو الامر في هولندا والمانيا حيث حصل حزب "البديل لالمانيا" اليميني المتطرف على اصوات اكثر من عُشر الناخبين في الانتخابات الاخيرة.

مؤخرا جاء نداء الرئيس الفرنسي ماكرون ليعلن فشل الاتحاد الاوربي في تلبية مطالب الشعوب الاوربية ومواجهة تغيرات العصر الحديث. وقد حذر فيه من المد اليميني وأكد على ان قلاع اليمين لا تستطيع ان تضمن اي شئ ايجابي لهذه الشعوب، وبدلا من الاستماع الى رفض اليمين للاتحاد الاوربي دون تقديم البديل لذلك يشهد بان الوقت قد حان لـ "نهضة اوربية" جديدة لتجديد الاتحاد الاوربي وضرورة التضامن من اجل دحر التطرف ومده المتصاعد في هذه القارة.

وفي الاتحاد الاوروبي بدأت قوى اليمين بالتكتل والتحالف، وقد شكلت مؤخرا كتلة سياسية جديدة "مجموعة المحافظين القوميين"بعد ان كانت مشتتة تحت لواء المحافظين والمسيحيين وهذا التحالف الذي يقوده الايطالي سالفيني ويجمع ممثلو سبعة دول اوروبية من بينها الفنلنديين الهنغاريين والدانماركيين والهولنديين والالمان والفرنسيين، وستشارك هذه الكتلة  في انتخابات البرلمان الاوروبي القادمة نهاية شهر مايو. وقد اعرب هذا التجمع عن رغبته في تغيير مسار الاتحاد الاوروبي دون تهديمه، بل بجره في مسار جديد تحت شعار "من اجل انقاذ اوروبا" و"باتجاه اوروبا عقلانية".. وفي اخر تصريح لنائب رئيس الوزراء الايطالي، سلفيني، اعرب فيه بانه يتوقع ان يفوز هذا التجمع بالاغلبية وسيلعب دورا حاسما في غلق الحدود الاوروبية والحفاظ على التقاليد والتاريخ الاوروبي.

(*) شاعر ومترجم دنماركي من أصل عراقي


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي