: آخر تحديث

بيروت مرآة لامرأة طويلة القامة

6
4
4

كان الشاعر الإيراني سهراب سبهري يقول: «عندما مات أبي كل رجال الدرك أصبحوا شعراء»، وفي بيروت لا ينتظر المرء حتى يموت واحد من عائلته ليصبح شاعراً، بل يكاد يولد الأطفال شعراء، لا لأن السلالة أو الجينات تنجب هذا النوع من البشر الغنائيين، بل لأنها بيروت، أو لأنه لبنان، ويكفيك البحر لكي تتعلم لغة بلون الفيروز، تكتب ولا تمحو، وحتى الحجارة تقودك إلى معرفة التاريخ.بيروت مدينة معرفة، لكن حقيقتها مدينة أنثوية بامتياز. أنثوية بيروت تكمن أيضاً في خفّة المدينة والتقائها الحميم بالماء، ولا فاصل بين البحر والجبل سوى بيروت التي تتخذ شكل جناح أو شراع، أو أي تكوين تشكيلي واقعي تماماً، بلا مجازات ولا تجريد.مدينة تعبيرية حرّة، لا يعيش فيها رسّام الطبيعة الصامتة طويلاً، لأن كل شيء وكل كائن فيها ليس صامتاً ضمن هذا المدى البشري والحجري المتكلم، لكن بلا ثرثرة، وبلا ثرثرة هنا من الناحية الجمالية الصرفة، إذا صرفت عنك كلياً ثرثرة طبقة السياسيين والتجّار وباعة الأيديولوجيا التي كان يقول عنها نزار قباني إنها حذوة حصان.بيّاعة خواتم بيروت، وهي مدينة الدهشة الطفولية والمفارقة، مدينة الفلاسفة السفسطائيين المختلفين على عدد أو حصص العفاريت الواقفة على رأس الدبّوس من جانب، ومن جانب آخر هي مدينة الحب بلا حدود وبلا نهايات، وهكذا يخرّبها الفيلسوف السياسي، ويعمّرها الشعراء والعشّاق.أنثوية بيروت مباشرة ضد ذكورية المذهبي والطائفي والتعصبي المدجج بانتفاخ النرجس المرضيّ فيه، في حين أن كل رعونة هؤلاء المجنّدين والمسيّسين حتى الرقبة لم يستطيعوا اختطاف بيروت من حقيقتها الجمالية الأنثوية.دائماً في بيروت يتغلب الجمال القليل على البشاعة الكثيرة، وانظر ما أقل وأخف فيروز، وما أثقل وأكثر نقيضها الواقعي والرمزي في مدينة صبرت على ملهاة ومأساة الحروب أكثر من صبر أيوب، ومع ذلك، لم يَشب شعرها الكستنائي المجنون في الرياح.قبل أن يعود عوليس إلى إيثاكه بعد ضياعه الإلياذي المرير في البحر، كان قد مرّ ببيروت. بيروت هي التي دلّته على بينلوب وعلى إيثاكه، لأن مدن الحب تتواءم بالفطرة، وعندما مرّ الإسكندر الفاتح ببحار العالم لم يبن إسكندرية له على الشاطئ اللبناني، لأن بيروت مدينة في حدّ ذاتها اسمها مؤنث، ولا يستعار أو يُعار. مدينة على شكل دولة صغيرة هي دولة شعراء وعشّاق وغنائيين وحملة حقائب وكتب ومرايا.بيروت مرآة لامرأة طويلة القامة، لا تعرفها جيداً إلّا إذا أهديتها مشطاً من العاج، أو كأنك عوليس الذي يرى بينلوب بعد كل هذا العمر وهي تمشط شعرها الطويل«حتى الينابيع».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد