: آخر تحديث

معطيات ما حدث من صِدَام إيران والكيان الصهيوني

3
3
3

حسن اليمني

انتهت المواجهة التدميرية بين إيران والكيان الصهيوني بعد التدخل الأمريكي الإسعافي لنجدة الكيان الصهيوني، عسكرياً وليس سياسياً، لأن تمدد الوقت في المواجهة مُنهك ومدمر للكيان الصهيوني، تم ذلك بقبول حل وسط من الجميع ملخصة تأخير نمو التطور النووي الإيراني مع بقاء القدرة الإيرانية للمواصلة، لكن ليست هذه هي النتيجة الكلية لما جرى وإنما اكتشاف خطورة ما جرى هو الأهم.

ما الذي انكشف وظهر بين الخصوم وأعاد الرصاص لفوهة البنادق التي انطلقت منها؟

برأيي هي عدة عوامل لم تكن خافية على أطراف الصراع، ولكن تمت محاولة القفز عليها وتجاهلها لاتخاذ القرار «الفهلوي» بين الكيان المحتل وإدارة الرئيس ترامب على مهاجمة إيران، وسرعان ما تبين أنه قرار متهور وخطر للغاية على الكيان الصهيوني أكثر منه على إيران، بما أعطى خطا أحمر لمستوى التصعيد يوجب التوقف عنده والتراجع عنه فوراً، وهو ما حصل فعلاً بتوافق في الحساب جعل كل الأطراف الثلاثة يدّعي النصر دون نصر حقيقي لأيهم.

ما تم ليس باتفاق موثق أو شروط محددة وانما بالتشبّع بما وقع من خسائر لكبح مسارها وخطورة نهاياتها على مستويات مختلفة لكل طرف، ويمكن تلخيص قاعدة المبررات بذكر بعض النقاط:

الوقائع الجيوسياسية والتي تعمل لصالح إيران ضد الكيان الصهيوني وداعمه الأكبر إدارة ترامب الأمريكية، وهذه الوقائع قسمان بين إقليمية ودولية، وليس مهما هنا ملاحقة التفاصيل سواء على إيران أو الكيان ولكن يكفي القول إنه بقدر ما يفهم أن عشرة صواريخ على الكيان المحتل أخطر وأمضى تدميرا من مائة صاروخ على إيران تنتهي الحاجة للتفصيل، وأن العمق الجيوسياسي سواء للكيان أو الوجود الأمريكي في المنطقة أضعف بكثير وكثير منه عن الوجود الإيراني، ولم يكن هذا مجهولاً من قبل الكيان وداعمه الأكبر، ولكن كانت فرص اهتزاز النظام الحاكم في إيران أو سقوطه أو على أسوأ الأحوال تحييده عن المسار «الابراهيمي» ربما هو ثمرة المغامرة أو الرجاء المحتمل، لولا أنه أمر مختلف عليه بين الكيان الصهيوني وإدارة ترامب التي لم تر أنه ثمن مناسب لتلك المغامرة ولا يضمن الوصول للنتيجة المأمولة، العدو الخارجي دائماً يوحد الصفوف الداخلية للطرف المستهدف، ودليل ذلك نراه في فلسطين - على سبيل المثال - لو جرى استفتاء بين السلطة الفلسطينية وحماس لربما انحاز غالبية الشعب الفلسطيني نحو حماس برغم أن نتائج الموقف بين السلطة وحماس أعطت التابعين لحماس الفقر والجوع والقتل والتدمير في حين ينعم جانب السلطة بالرفاهية والترف، لهذا فإن الواقع الجيوسياسي مع إيران ولصالحه ضد الكيان وداعمه، وباعتبار جمهورية إيران الإسلامية دولة ذات عمق تاريخي وليست حزب مقاومة عسكريا فإن العلاقة بدول المنطقة بطبيعة الحال مختلفة وآثارها بالتأكيد تكون مختلفة، هذا في الجانب الإقليمي، أما على المستوى الدولي فهو يأخذ مسارا مختلفا تماماً عن تطلع الإدارة الأمريكية وخص الرئيس ترامب المهتم جداً بدعم وتمتين الاقتصاد الأمريكي والنفور من الحروب بخسائرها وكلفتها الباهظة والمدمرة، في حين أن روسيا ترى أن هذه فرصة رائعة، حيث تتيح لها معالجة اقتصادها وتسويق نفطها بأسعار مغرية وحتى التكسب ببيع السلاح وتأجيج المنطقة على الوجود الأمريكي إضافة لكسر العناد الأوكراني ودحره بانشغال حلفائه في هم آخر، أما الصين فإنها سترى في الانشغال الأمريكي واستنزافه فوائد لا حصر لها اقتصادياً واستراتيجياً على المدى المتوسط والبعيد، أي أنه في المحصلة ستكون النتائج لروسيا والصين كجبهة شرقية على حساب الجبهة الغربية هائلة في إعادة تشكيل النظام الدولي وتنقية وترقية مساراته بما يُعيد الحضور الدولي في الجاب الغربي للوراء ويغير تحالفات المنطقة بشكل مختلف.

الوقائع (الجيوبوليتيكية) وهي متلاصقة ومتلازمة مع الجيوسياسية في الصراع تميل للجانب الإيراني بقوة في السعة والخطورة، بل إن الوقت هو آلة التصعيد لهذه القوة والخطورة على الكيان الصهيوني وداعمه الأكبر، وحين يجتمع التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين وتتحد في مواجهة المصير فلا توجد قوة يمكن أن تواجه مثل هذا الاتحاد، ومعلوم أنه وبرغم التفرق المذهبي إلا أن التاريخ والجغرافيا ملتصق بالثقافة والعقيدة الإسلامية الثقيلة التي سيكون الوقت بمثابة الدينامو المحرك المفعِل لها ومعيناً ومساعداً على تحريكها وتأجيجها، وبالتالي تعود على الكيان الصهيوني وداعمه الأكبر بأبعاد خطرة لا قدرة لهما عليها، أما الأثر في الناحية الدولية فإنه يتماهى بشكل كبير مع رؤية المفكر الروسي (ألسكندر دوغين) بتلاحم البر بين جنوب غرب ووسط وشرق آسيا بشمالها لتصل شرق أوروبا في مواجهة الصهيونية العالمية غرباً أو كما اسماها حرب بين «التالاسقوراطية» كوصف للغرب بمعنى قراصنة البحر و»التيلورواقراطية» للشرق الشامل لدول البر الآسيوي، وليس القصد حرب عسكرية ولكن حرب حضارية وصراع لإدارة العالم.

الكلفة المادية والحضارية في هذا الصراع لو استمر سيكون مربكاً للغرب بما فيه الكيان المحتل كلقيط متبنى لها في حين أنه يصعد في اتجاه آخر باليقظة والطموح ليس للصالح الإيراني فقط بل وحتى دول المنطقة وكل ما يحتاجه هذا هو الوقت والوقت فقط، وإن اقتصرناه فقط على الحال الإيراني فإنه يمكن التمثيل له بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) حين تم إغلاق المنافذ واشتد الحصار والهلاك والتدمير وغاب المؤازر والداعم استيقظت الروح الخلّاقة وصنعت سلاحها وبقيت غصّة في حلق الغرب وكيانه بذاتيتها المستقلة، صحيح أنها لم تنتصر بطريقة تحرير الأرض ولكنها لم تستسلم ولم تنته ولا زالت برغم قلّة العدد والعتاد ترهق الكيان وتربكه وتكلفه خسائر ولم تنقرض، كذلك هي إيران لن تنقرض، في حين أن الكيان وباعتباره كيانا اصطناعيا سارع لإغلاق المنافذ لترشيد هجرة السكان مع أول ضربة جوية، بل إن الوقت يعطي للكلفة المادية والحضارية فرص الانطلاق ولا يستغرب لو فجرت إيران بعد وقت - لو استمرت المواجهة - قنبلتها النووية، وليس ذلك فقط بل إن دول المنطقة ستتجه للتصنيع العسكري والابتكار في المعالجات بشكل متقدم، وكل هذا يقلب موازين المعادلة رأسا على عقب بما يمثل هزيمة للغرب الصهيوني وقاعدته في فلسطين.

إذن توقفت المواجهة برغبة من الكيان وداعميه بادعاء تحقيق الأهداف أو على الأقل تعطيل وتأخير التصنيع النووي الإيراني لا تعني أنها انتهت وبالتالي فليس فيها نصر أو هزيمة طالما هي مستمرة، يحكم ذلك فارق المعنى بين توقفت وانتهت الذي حكمته خسائر فادحة لا توازي غاياتها وأهدافها المتحققة، وبذات الوقت كشفت عن نقاط قوة ونقاط ضعف في كلا الجانبين، فعن الجانب الإيراني ظهر الاختراق الصهيوني في الداخل الإيراني من خلال عملاء وجواسيس وخلايا نائمة استيقظت ساعة الصفر فصدمت القيادة الإيرانية تحت إثر الغفلة، وإن كانت كشفت بذات الوقت خرافة المكر الصهيوني الذي اختار «العنترية» على الحكمة والرؤية البعيدة حين سارع لفضح أدواته بانطلاق الصواريخ والطائرات الحربية لدك أهداف عسكرية وعلمية في إيران، في حين كان يمكنه زعزعة إيران ونفضها من خلال العملاء والجواسيس والخونة مع توفر الورش والتصنيع والاتصال والتنفيذ، وبذات الوقت كشف هذا المعطى أي زرع العملاء والجواسيس والخونة درسا ثقيلا للدول الأخرى في المنطقة بما يفترض أنه يهز الغفلة ويوقظها.

وفي حصيلة الأرباح والخسائر في هذه المواجهة - ولا أقول حرب - فالحرب الحقيقية موجودة في غزّة بين احتلال ومقاومة، أما ما حصل بين إيران والكيان الصهيوني فليس إلا فرد عضلات وأشبه بحلبة ملاكمة أو مصارعة انتهت بانتشاء الحكم ترامب وادعاء القوة الذي بدأت وسائل إعلام بلاده تشكك فيها وتتساءل عن حقيقة نتائج الفعل الأمريكي، وهي أيضاً لم تكن مواجهة عبثية فخسائرها في الطرفين عظيمة جداً برغم تكتم الأطراف وفوق هذا أعطت وضعا جديدا للمنطقة، ومن هذه المعطيات أيضاً ظهر أن استمرار الكيان المحتل في خلق الاضطراب في المنطقة وإدخالها بين فترة وأخرى نطاق الخطر مستمر منذ نشأتها عام 1948م وسيبقى ويستمر باستمرار وجود هذا الكيان في انفلاته ما لم تتحرر السياسة الأمريكية من خطورة بقاء هذا الدعم والتغطية، فقد أظهر الكيان الصهيوني بما لا يدع مجالاً للشك مدى ضعفه وهشاشته في المواجهات العسكرية الجادة بخلاف ما حدث في حرب 1948 و1956 وحتى 1973م وتأكد ذلك في 1982 مع حزب الله في لبنان ومثلها حروب مع المقاومة الفلسطينية متكررة إلى هبّة السابع من أكتوبر 2023م التي شكلت الفاصلة الحقيقية بين ما قبلها وما بعدها، وتم توثيق ذلك فعليا بدك الصواريخ الإيرانية على أهداف حساسة للغاية في قلب الكيان الصهيوني وفي كل مفاصله العسكرية والاقتصادية والصناعية والبنى التحتية والنسيج الداخلي وفتح باب النزوح والهروب من جحيم الحروب المستمرة لهذا الكيان.

وفي الجانب الإيراني كانت الخيانة والغفلة فاجعة حقيقية جعلت صرف أموال الوطن لصالح نزعات السلطة في اتجاه التصنيع العسكري وتغذية الفوضى في المنطقة على حساب دعم معيشة المواطن وحماية النمو والتنمية كخطأ استراتيجي في منهجية تصدير الثورة والذي أعاق مسار التواصل والتعاون مع دول الجوار، وبرغم الخسائر الجسيمة التي طالت أهدافا حساسة كلّفت الاقتصاد الإيراني الشيء الكثير وسيكلف الأضعاف في مراحل الترميم وإعادة البناء فإنه في الجانب الإيجابي أظهر حيوية تمتين العلاقات مع دول الجوار والانسجام مع عمقها الاستراتيجي، وبما يعني أن العلاقات العربية الإيرانية أصبحت أمام مسار واضح للجميع بعد هذه الأحداث إن لم أقل أعادت البعض لحجمه الطبيعي.

وأخيراً، لا يمكن القول: إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت في رؤية واضحة نتيجة ما حدث على الأقل في مرحلة ترامب ولكنها أي الرؤية الأمريكية ستكون أكثر وضوحاً للبناء الاستراتيجي في عمق السياسة الأمريكية على المدى المتوسط، بناء على عدّة عوامل منها: ما أظهرته المواجهة من انكشاف هشاشة الكيان الصهيوني في الاختبارات العسكرية مع تصلب في الاختبارات السياسية حول القضية الفلسطينية والعلاقات النفعية مع الأصدقاء العرب، كما وأنها تزيد كلفة تحمل الإدارات الأمريكية زيادة المخاطر في المنطقة وصراعات النظام الدولي، حتى وإن لم يظهر شيء من ذلك اليوم على وسائل الإعلام لكن ظهور المعارضة والتشكيك في الفعل الأمريكي تجاه إيران ومحاباة الكيان الصهيوني في كل فعل صار يسمع بكثرة وأخبار تظهر في الإعلام، كما أن بقاء استمرار الحرب الصهيونية على أبناء فلسطين وتجويعهم وإذلالهم مع ازدواجية المعايير أصبح في العموم والخصوص الأمريكي والغربي مسموعا بشكل واضح وجلي في الدهاليز العميقة للدول الغربية.

** **

- الرياض


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد