الكثير من الناس يربطون الإبداع باللحظات العفوية والانفعالات الحماسية، وكأن الفكرة الخلاقة لا تولد إلا في لحظة صفاء نادرة أو في بيئة غير مألوفة، لكن الواقع اليومي لكثير منا لا يشبه ذلك، بل تمضي حياتنا في أنظمة متكررة، وجداول يومية تبدأ وتنتهي بتسلسل شبه ثابت. وهذا يثير سؤالاً مهماً: هل يقتل الروتين قدرتنا على الإبداع؟ الروتين ليس عدواً بطبيعته، بل هو إطار منظم يسمح للعقل بالتحرر من عبء اتخاذ قرارات متكررة، ما يوفر مساحة ذهنية يمكن استخدامها لأفكار جديدة. وهذا ما تؤكده دراسة نشرت في مجلة البحث الإبداعي، أجراها الباحثان «دي لانغ» و«فإن دي فن» من جامعة أمستردام، حيث تبين أن الأشخاص الذين يملكون هيكلاً يومياً ثابتاً يظهرون مستويات أعلى من الإبداع في المهام التي تتطلب حلولاً غير تقليدية، موازنة بأولئك الذين يعملون ضمن أنماط فوضوية وغير منتظمة. التفسير كان أن الروتين يخلق نوعاً من الاستقرار الداخلي، يسمح للعقل بالتجوال بحرية في نطاق الأفكار، دون أن يستنزف في تفاصيل اليوم.
في المقابل، حين يتحول الروتين إلى نمط صارم خال من التحديات أو التنويع، فإنه قد يتحول إلى بيئة خانقة للأفكار. التكرار الممل لنفس المهام دون تغيير في الزاوية أو الوسيلة قد يطفئ في الروح شرارة الحماس، ويجعل العقل يختار الأمان العقلي، فالإبداع لا يزدهر فقط في الفوضى أو في الروتين، بل في المساحة المرنة التي تقع بين هذين الاثنين.
الكثير من المبدعين عبر التاريخ اتبعوا روتيناً صارماً مثل الروائي هاروكي موراكامي الذي يكتب في الصباح الباكر يومياً، ويكرر طقوساً محددة تشمل الجري وتناول نفس الوجبة. ورغم هذا الانضباط الشديد، فإن إنتاجه الأدبي يحمل طابعاً مختلفاً عن المظهر الشائع.
السر ليس في كسر الروتين، بل في معرفة كيف نستخدمه كأداة بدلاً من أن نصبح أسرى له.
ربما التحدي ليس في التخلص من الروتين، بل في إضفاء «معنى» عليه، وأن نسمح للتكرار بأن يكون مساحة للتفكر، وليس مجرد عبور ليوم آخر، أن ندرج لحظات صغيرة من التغيير داخل النظام نفسه ونختار طريقاً مختلفاً لنسلكه عند المشي، نستمع إلى نوع جديد من الموسيقى، نبدل توقيت مهمة ما، أو حتى نخلي بعض الوقت تماماً للفراغ والتفكر، حيث الأفكار تنمو بعيداً عن الانشغال.
www.shaimaalmarzooqi.com