هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها بيروت، وَ«زيارتنا قصيرة» كما قال محمود درويش صاحب الجملة الشعرية الشهيرة «بيروت خيمتنا الأخيرة». وبيروت ليست خيمة، بل هي فعلاً «قطعة من السماء» كما قال سعيد عقل، وقد مسكت بيدي الغيم فوق جبال عاليه. وهذه ليست جبالاً، بل مدرّجات من الشجر ومراوح ضباب وهواء يتجوّل بين الفواكه المتدلية في الظلال، وقصائد خضراء متلاقية نحو السماء.
قبل يومين فقط عرفت لماذا قال محمد الفيتوري قبل نحو نصف قرن «بيروت غيّرتني» حين زار أو عاش في لبنان آنذاك فترة قصيرة كانت كافية لتغيير حياة ووجود شاعر كان يبحث عن ذاته في الشعر، فإذا به يجد كينونته كلها في بيروت.
زيارتي قصيرة مثل شتلة حبق، ولكن يعرف المرء لماذا أمجد ناصر، وزكريا محمد، ورسمي أبو علي، وعلي فودة شعراء جعلت بيروت منهم شعراء. وبيروت تجعل من المزارع والحجّار والسياسي والحوذي وبائع ورق اليانصيب شعراء إذا كان من نصيبِهم أن عاشوا في بيروت.
تحمّمت بالغيم في عاليه. أكلت من أكل اللبناني في بيته. أكلت من خبزه وزعتره. وضحكت معه وكما لو أنني أسمع فيروز للمرة الأولى. وصرت أنيقاً وخفيفاً، وجميلاً مثل الغيوم فوق جبال ترحّب بك، وتحوّلك إلى ناثر قصير الجملة، وسريع الإيقاع.
سلّمت على أحمد فرحات، ومحمد بنجك، وحسين حمية، وهاتفت شوقي بزيع، وبحثت عن رشا الأمير، ولو كان للمرء وقت أطول، لذهبت أبحث عن قبر جوزيف حرب، سألت: أين تسكن فيروز؟ وأين الأرز؟ رأيت الأرز فوق الجبال. هذه نجمة لبنان، وأيقونتها الخضراء التي التصقت بالعلم اللبناني إلى الأبد، ولا الطائفة ولا المذهب ولا السلاح بقادرة كلّها على نزع الأرزة لا من مكانها في الجبال، ولا من رمزيتها في الثقافة والفكر والحياة.
افتح عينيك إلى آخرهما، تذوّق لبنان على مهل. لا تأكل البلاد كلها كي لا تشبع، وابحث عن الماء ولا تشربه كله كي تظل ظمآن لهذا الجمال المركب الكثيف.
بعد الستين، عرفت لماذا كان الشاعر العربي المختنق في بلاده يجد الأكسجين في بيروت. عرفت بيروت المختبر والمصنع والولادة لكل هؤلاء العرب الذين نظفوا وأصبحوا أكثر أناقة هنا في مدينة مستلقية على ضلع أزرق من البحر الأبيض.
وُلِدَت حوّاء من ضلع آدمي وَوُلِدَت بيروت من ضلعين: ضلع البحر، وضلع الجبل. بلد ملموم في ذاته وفي محاذاة المتوسط. مرسوم بالطول. ولعلّه أقرب مكان في العالم إلى السماء.
كانت عاليه قصيدة يكتبها الشاعر المذهول والمأخوذ بسحر الجمال البشري الطبيعي الذي يمشي على الأرض، لأعرف لماذا كتب نزار قباني شعر الحب، ولماذا أصبحت ذكوريته الشعرية أدباً غنائياً ناعماً بأنوثة المرأة التي تبدو أكثر شبهاً بمدينتها، فكأنها تلك المرأة في بيروت لم تولد مثل حوّاء، بل ولدت مثل «أفروديت».
الآن عرفت اختبارية ومصنعية لبنان، وأن تعرف متأخراً خير من ألا تعرف إلى الأبد.