: آخر تحديث

النقد ثقيل دم

11
8
8

علي بن محمد الرباعي

مما تحتفظ به ذاكرتي، أن أبي عليه رحمة الله كلّفني بذبح خروف في ليلة شاتية، وأنا في المرحلة الابتدائية، وكنتُ وجِلاً من هذا التكليف الدموي، ومُبتهجاً في ذات الوقت بالثقة الأبوية، إلا أنه عندما حضر بالكشّاف ليرى ما فعلت، وكانت أُمي رحمها الله تساعدني في السلخ، بدأ ينتقد طريقة سلخي التي أسفرت عن صفق بعض اللحم في الجِلد، وكانت الوالدة رحمها الله تردد (خلّه يكمّل لا تعميه)!! لكنه لم يتوقف عن نقده إلا عندما حزّت الشفرة اصبع الشهادة، واختلط دمي بدماء الخروف، فانصرف وتركنا نكمل المهمة كيفما اتفق!!!

حدثتني نفسي الأمّارة بالضوء بحزمة من الأفكار النقدية، وكدتُ أركنُ إليها بانفعال، إلا أنّي بالتريّث وبمراجعة ما حدثتني به، وما خطر على البال، انخفض سقف الانفعال، وتحوّل الانفعال إلى تفاعل، وآثرتُ الصمتَ على الكلام، لأنه إذا كان الكلامُ عِلْماً، فالصمت فنٌّ.

لا خلاف على أن المجاملة والمحاباة ليست مُكْلِفة و(حب الثناء طبيعة الإنسان)، وإذا كان هناك من يفرح ويبتهج بالمديح والإطراء، ولو كان مجانياً، فإن هناك من يرفضه ويردّ عليه بقسوة، كون التطبيل والثناء دون مبرر نقداً ساخراً أو هجاء مُبطّناً لا ينطلي على ذي فطنة.

وتظل صورة الكاتب، في ذهن البعض، أنه ناقد لا ماسح جوخ، بحكم ما قيل ويقال وما يروى، من أدبيات أمانة الكلمة، وأخلاق الكتابة، وربما لا يزال بعضُ البعض يتطلّع إلى وهج مقالات العقد الأول من القرن الميلادي الحالي، وهذا تطلّع في غير محله، فالظروف لم تعد هي ذاتها والقوانين والتشريعات حددت أطراً كي ينضبط إيقاع النص مع الواقع وإمكانات الشخص.

ومن عاش مرحلة الكتابة المفتوحة، أو المشرعة الأبواب على كل همّ وهاجس وقصور، وأدرك المرحلة الحاليّة يُسلّم بأن العمل اليوم أكثر جديّة وصرامة؛ ومن مقتضيات هذه المرحلة مواكبة التحولات بتشجيع، وتحفيز، والإشادة بكل منجز، فالخروج من حقبة إلى حقبة أوسع وأنشط أشبه بهدم وإعادة بناء، والارتماء في حضن النقد ليس إيجابياً على طول الخط، فهناك ما يستدعي التأمل والترقب، والانتظار مع حسن الظنّ في من يعملون.

لربما يكون في النقد تنفيس عن الناس الشغوفين بتحقيق المستهدفات، إلا أن نقد التنفيس تعيس، وربما يكون بؤساً على الذي عبّر دون إحاطة شاملة بما يتحدث عنه، فالنقد التنموي يشدّ الأزر ويعزز الأدوار، ويشعر الباني المخلص بأن هناك امتناناً وتثميناً لما يعمله، ما يرفع المعنويات ويرجح كافة الإيجابيات.

يرى المثاليون أن النقد أصيلٌ في أدبياتنا، فالله -عز وجل- نقد النبي -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من موضع، منها ما يتعلق بالحياة الزوجية، مثل ما ورد في مطلع سورة التحريم، ومنها الجانب السلوكي كما في سورة عبس، ومنها في الجانب العسكري (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، ومنها ما يتعلق بالنيات (وتُخفي في نفسك ما الله مبديه) وغيرها؛ وكان المصطفى عليه الصلاة والسلام أميناً على نقل العتاب والنقد كما وصله من السماء دون استشعار منقصة؛ وما كان للمؤتمن على دِين الإله أن يفتري على الله؛ ولكن هو نقد الذي يعلم لمن لا يعلم، وعتاب على مخالفة وقعت ممن يُشرّع للأمة، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما ينتقد أصحابه يكتفي بقوله (ما بال أقوام).

ليس من مروءة النقد التقريع والهجاء، ولا من الحكمة تجاهل الإطراء كونه يتنافى مع مفهوم وغايات الناقد، فالنقد الموضوعي الهادف لا يُجرّح ولا ينتقص ولا يُشخصن، ولذا ممكن قبوله والتفاعل معه، إذ ليس هناك عمل يبلغ الكمال إلا عمل رب العالمين.

بالطبع من النقد ما هو ذاتي، ومنه ما هو استفزازي، ومنه ما ينسف الجهود، وينتقص من الأدوار، ومثل هذا سرعان ما يكون وبالاً على الناقد الناقم، الذي غفل عن أن النقد وسيلة لتحقيق الأفضل والأميز، من خلال الإشادة بما تحقق من إنجازات، والتطلّع للمزيد من النجاحات، ومن لوازم مهنية النقد اختيار التوقيت، واللغة، والأسلوب؛ فالمنظومة التي تبحر في قارب لا تقبل من مُحبّ أن يشنّع على القارب بمن فيه، ولا يكسّر المجاديف فلربما كان البحرُ لُجّياً، والريح غير مؤاتية؛ أو التربص به من قراصنة أكثر وأكبر مما يتصوّر، وكم كان نقد ردود الأفعال مُهدِراً للمصداقية.

تلويحة: لا يغترّ كاتب بقبول المسؤول لنقده، فالنقد بطبعه ثقيل دم، مهما أضفنا له وعليه من المسيّلات والمُخففات، والمُحَلِيَات؛ والمُملِحات، ومن الحكمة إبداء الرأي ممن هو أهل لإبدائه، إذا طلبه منه من يثق برأيه بصفة خاصة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد