: آخر تحديث

جستن.. بيت الخبرة الذي دخل المشهد الإعلامي

2
2
2

في السنوات الأخيرة، باتت الحدود بين الإعلام والتعليم أكثر مرونة وتداخلًا. لم يعد التعليم حكرًا على الصفوف، ولا المعرفة حكرًا على المناهج. في هذا السياق المتغير، تبرز الحاجة إلى نوع جديد من الإعلام، يُصمم من داخل المؤسسات التربوية لا من خارجها، ويستند إلى منطق تربوي لا فقط إلى منطق العرض والطلب. ومن بين التجارب السعودية اللافتة، تقف الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، المعروفة بـ"جستن"، مثالًا حيًا على هذا التحول حين دخلت المشهد الإعلامي من بوابة المعرفة العميقة والتاريخ الطويل في خدمة التعليم.

الإعلام التعليمي ليس جديدًا من حيث المفهوم، لكنه يكتسب اليوم حضورًا مختلفًا بفضل التقنيات الحديثة واتساع قنوات النشر الرقمي. وفقًا لورقة بحثية نشرت في مجلة Educational Media International عام 2024، فإن الإعلام التعليمي الذي يُبنى على أسس تربوية يحقق أثرًا معرفيًا وسلوكيًا أعمق من الإعلام التقليدي. كما يشير David Jonassen إلى أن التعلم لا يحدث من الوسائط بل من خلال التفاعل معها، مما يعني أن المحتوى الإعلامي لا يُعد تعليميًا إلا إذا انطلق من تصميم تربوي واعٍ. أما مركز Joan Ganz Cooney فقد أكد في تقريره الأخير أن أي مادة إعلامية لا ترتبط بمنظومة تعليمية أوسع تفقد تأثيرها وتتحول إلى ترفيه مبسط. الإعلام التعليمي إذًا ليس مجرد نقل معلومة، بل بناء تجربة تعلم متكاملة تسهم في تشكيل وعي الفرد وتطوير مهاراته وإعادة ربطه بالمجتمع.

انطلقت جستن من خلفية علمية رصينة، وقدّمت نفسها لسنوات كمؤسسة أكاديمية متخصصة في التربية وعلم النفس، لكنها اليوم تخطو خطوة أكثر عمقًا حين بدأت بإنتاج محتوى مرئي ومسموع عبر منصات مثل بودكاست جستن. هذا البودكاست لا يكتفي بعرض الموضوعات التربوية، بل يناقشها باستضافة خبراء ومتخصصين، ويقدّمها بلغة مهنية، قابلة للفهم والتأمل والتطبيق. الحلقة التي ناقشت "الأبعاد النفسية للحضور المدرسي" مع الدكتور مشعل العقيل مثال حي على كيف يمكن لقضية تربوية أن تتحول إلى مادة إعلامية محكمة، قادرة على الوصول لمعلمي المدارس وصناع السياسات وأولياء الأمور على حد سواء. ما يميز تجربة جستن هو أنها لا تُجمّل الواقع بل تُفككه، ولا تكتفي بالتحليل بل تقترح المسارات الممكنة، مما يمنحها مصداقية مهنية عالية في المشهد الإعلامي التربوي.

حين نعيد النظر في توجهات جستن الجديدة، يمكننا القول إن الجمعية تمهد الطريق لنموذج سعودي متميز في الإعلام التعليمي. نموذج لا يكرر قوالب خارجية، بل يستثمر في الثقافة المحلية والخبرات الأكاديمية الوطنية. التوقعات من هذا النموذج كبيرة، إذ من المتوقع أن تسهم هذه التجربة في رفع مستوى الحوار العام حول التعليم، وإعادة بناء العلاقة بين المدرسة والمجتمع، وتمكين المعلم من أن يكون صوتًا حاضرًا في النقاش الوطني. كما أن استمرار الجمعية في هذا المسار قد يجعلها مصدرًا معتمدًا للمعرفة التربوية المسموعة والمرئية، خاصة في ظل غياب مؤسسات إعلامية متخصصة تُعنى بمثل هذا النوع من المحتوى.

خاتمة هذا التحول ليست مغلقة، بل مفتوحة على إمكانيات كثيرة. جستن تقدم برهانًا مهمًا على أن الإعلام حين ينطلق من التعليم، يصبح أكثر صدقًا، وأكثر تأثيرًا، وأكثر قدرة على بناء المستقبل. التجربة لا تزال في بداياتها، لكن إشاراتها واعدة، ورسالتها واضحة: لدينا في الداخل مؤسسات قادرة على إعادة تعريف الإعلام، لا من خلال صخبه، بل من خلال عمقه. وحين يصبح لبيوت الخبرة صوت في الساحة الإعلامية، يمكننا أن نطمئن أن الرسالة التربوية لم تعد حبيسة القاعات، بل خرجت إلى المجتمع بلغة يفهمها الجميع، ويصنع بها الوعي والتغيير.. دمتم بخير.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد