يمكن تلخيص المواقف حول الحرب في غزة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: الأول يدين إسرائيل على حرب الإبادة الهادفة إلى تفريغ القطاع من سكانه، وهو موقف رسمي في كثير من الأحيان. الثاني يلوم «حماس»، معتبراً أن قرارها في 7 أكتوبر (تشرين الأول) كان متسرعاً وغير مدروس. أما الثالث، فلا يدين «حماس» لكنه يصف قرارها بأنه خطأ استراتيجي وتكتيكي. رغم تباين الردود، فإنها تظل تدور حول العبارات المكررة نفسها، مثل «لا تلوم الضحية وتتجاهل الجلاد»، أو «الاحتلال لم يبدأ في 7 أكتوبر بل منذ أكثر من 70 عاماً»، أو أن «المقاومة أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية». لكن السؤال الأهم: وماذا بعد؟ كيف يمكن للفلسطينيين مواجهة مشروع التطهير العرقي وضم الضفة وغزة لإسرائيل؟
هناك أربع «جزر» فلسطينية منفصلة ينبغي إعادة التفكير في واقعها، والعمل على تحقيق نوع من الانسجام والتكامل فيما بينها، لتحقيق هدف التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية.
جزيرة غزة (المقاومة المسلحة): غزة، بقيادة «حماس» والفصائل الأخرى، اتبعت طريق المقاومة المسلحة. وأدت الانتفاضة الثانية (2000-2005) إلى انسحاب إسرائيل عام 2005 تحت ضغط التكاليف الأمنية، والمقاومة، والضغوط الدولية.
جزيرة الضفة الغربية (المسار الدبلوماسي): تحت قيادة «فتح» و«منظمة التحرير»، سلكت الضفة المسار الدبلوماسي، مما أدى إلى اتفاق أوسلو عام 1993 الذي توسع لاحقاً عام 1995. وبعد مرور أكثر من 20 عاماً، لم تحقق هذه الاستراتيجية نتائج ملموسة على الأرض.
جزيرة فلسطينيي الشتات: رغم انتشارهم في جميع أنحاء العالم، لم ينجح الفلسطينيون في الشتات في بناء قوة ضغط عالمية كتلك التي تمتلكها المنظمات اليهودية. مع غياب شخصيات مثل إدوارد سعيد ووليد خالدي، لم تستطع هذه الجالية تشكيل «لوبي» مؤثر لدعم القضية الفلسطينية.
جزيرة فلسطينيي الداخل (داخل إسرائيل): رغم أنهم يمثلون نحو 20 في المائة من سكان إسرائيل، لم يتبنَّ فلسطينيو الداخل نموذجاً مقاوماً فعالاً، مثل تجربة جنوب أفريقيا ضد الفصل العنصري. بدلاً من ذلك، اكتفوا بتمثيل محدود في الكنيست دون استراتيجية موحدة لمواجهة التمييز الإسرائيلي.
تقريب المسافات بين الجزر الفلسطينية هو التحدي الأكبر؛ التفكير بكيفية توحيد هذه الجزر ضمن إطار وطني مشترك، مستفيدين من الدعم العربي والدولي، رغم أن هذا الدعم غير منظم وغير مستغل بالشكل الأمثل حتى الآن.
اتفاق بكين بين «فتح» و«حماس» الذي يهدف إلى إعادة هيكلة «منظمة التحرير» وتشكيل حكومة موحدة، قد يكون خطوة إيجابية. ولكن حتى الآن، لم يتحقق أي تقدم عملي، مما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت المشكلة في ضعف الصين كوسيط دولي، أم أن الانقسام الفلسطيني أصبح مرضاً مستعصياً يمنع التوصل إلى حل ناضج.
كما أن دور العرب واستلهام تجارب التحرر العالمية أساسي في دعم الفلسطينيين. ولكن يجب على الدول العربية التفكير في استراتيجيات فعالة ومختلفة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، كما فعلت دول أخرى في حالات مشابهة. يمكن استلهام نموذجين مهمين:
1. جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري (1948-1994): تمكنت المقاومة في جنوب أفريقيا، بدعم دولي، من فرض مقاطعة اقتصادية صارمة على النظام العنصري، مما أدى إلى انهياره في النهاية. رغم أن جنوب أفريقيا كانت دولة نووية، فإن الحصار الاقتصادي أجبرها على التفاوض، مما أدى إلى إطلاق سراح نيلسون مانديلا وإنهاء الفصل العنصري. الدول العربية، بقوتها الاقتصادية، قادرة على تكرار هذا السيناريو ضد إسرائيل.
2. فيتنام والحرب ضد الولايات المتحدة: استطاعت فيتنام فرض واقع أجبر الولايات المتحدة على إعادة التفكير في استراتيجيتها، مما أدى إلى مفاوضات باريس وانسحاب أميركا من الحرب. يمكن للعالم العربي تطوير نموذج مشابه يرفع تكلفة الاحتلال الإسرائيلي إلى حد لا يمكن تحمله.
لكي يتمكن الفلسطينيون من مواجهة التهجير والتطهير العرقي الذي تسعى إليه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، يجب أن تقترب هذه الجزر الفلسطينية الأربع من بعضها، تحت قيادة موحدة، تحترم خيارات الشعب الفلسطيني المختلفة، سواء كانت المقاومة المسلحة، أو الدبلوماسية، أو النضال السياسي داخل إسرائيل، أو الضغط الدولي.
الوضع في غزة لا يمكن التعامل معه كأزمة معزولة، بل كجزء من قضية فلسطينية متكاملة تتطلب استراتيجيات متعددة ومتزامنة. العرب والفلسطينيون يملكون الأدوات اللازمة لجعل الاحتلال مكلفاً لإسرائيل، لكن ذلك يعتمد على وحدة الموقف الفلسطيني، وفاعلية الدعم العربي، واستلهام تجارب التحرر العالمية الناجحة.