: آخر تحديث

الإدارة ورطة كبرى

4
3
3

علي عبيد الهاملي

كان في نيتي أن أستخدم التعبير الذي استخدمه الكاتب والإعلامي الفلسطيني عارف حجاوي، عندما سئل عن تجربته في الإدارة، فأجاب: «الإدارة مستنقع كبير»، لولا أنني خفت أن يُساء فهم التعبير عندما يرى أحدهم العنوان دون أن يقرأ المقال كاملاً، فعدلت عن ذلك.

عارف حجاوي، الذي عمل في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية عشر سنوات، كان في الأربع الأخيرة منها مديراً للبرامج، وقدّم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وتنقل بين عدد من الوظائف الإدارية في الإذاعات والقنوات التلفزيونية والصحف والجامعات، قال عندما سئل إذا ما كانت هذه النقلة مناسبة للمذيع: «ليس كثيراً»، وذكر أنه عندما كان مديراً للبرامج في هيئة الإذاعة البريطانية كان يتسلل في الليل إلى أستوديو التشغيل الذاتي في مبنى «بوش هاوس» بلندن، ويسجل فقرات في الشعر والأدب.

لا أتوقع أن يكون حجاوي قصد معنى سيئاً عندما وصف الإدارة بأنها مستنقع كبير. ولهذا عندما استغرب محاوره هذا الوصف، استدرك قائلاً إن الإدارة شيء جليل يحتاج إلى شخص لديه مواصفات كثيرة، فليس أحسن شيء هو أن يكون مديراً لأنه يحمل هموم الآخرين، ولهذا كان يُقْدِم على الاستقالة في ظروف جيدة.

هذه النظرة للإدارة نفهمها بشكل مختلف، وهو أنه عندما يكون لديك مذيع، أو كاتب، أو مخرج، أو مبدع ناجح في أي مجال، فمن الخطأ، وربما من الظلم، أن تزج به في أتون الإدارة، لأن هذا سيكون على حساب إبداعه والنجاح الأكبر الذي يمكن أن يحققه في مجاله لو ظل متفرغاً لإبداعه.

أتفق مع وجهة النظر هذه، وأعترف بإن العمل الإداري محرقة للمبدع، وقد عرفت خلال سنوات عملي في الإعلام نماذج من مذيعين وكتاب وغيرهم، كان يمكن أن يحققوا نجاحات كبيرة في مجالات إبداعهم لولا الزج بهم في أتون العمل الإداري، ووضعهم في وظائف إدارية استنزفت منهم أوقاتاً كبيرة وجهوداً مضنية، كان يمكن توظيفها كي يصبحوا رموزاً في مجالات إبداعهم. صحيح أن بعض المؤسسات استفادت من جهود بعضهم في تطوير العمل بها، لكنّ هناك آخرين لم يحققوا النجاح المأمول في الإدارة، وكان بالإمكان أن يحققوا نجاحاً أكبر لو أنهم بقوا في مجالات الإبداع التي كانوا ناجحين فيها، وطوروا أنفسهم بشكل يمكن أن يصنع منهم نجوماً يشار إليها بالبنان.

أتفهم ما قاله عارف حجاوي، صاحب التجربة الكبيرة في مجال العمل الإذاعي والتلفزيوني والصحفي، وأفهم ما يقصده بشكل إيجابي بعيد عن الإساءة إلى مفهوم الإدارة وأهميتها، وقد ضرب هو نفسه أمثلة، وأتى بأدلة على ما يعنيه عندما قال رأيه فيها، فالإدارة الإعلامية تخصص عظيم ومهم، وهي عمل قد ينجح فيه بعض المبدعين، ولكن على حساب الوقت الذي كان يمكن أن يستغلوه لزيادة رصيدهم من الإبداع، وقد يمر وقت طويل قبل أن يتنبهوا إلى ذلك ويدركوا أنهم قصّروا في حق أنفسهم وموهبتهم، أيّاً كان شكل هذه الموهبة ومجالها.

أستطيع أن أقول بعد كل الأعوام التي قضيتها في ميدان الإعلام بأشكاله المختلفة: «إن الإدارة الإعلامية علم وفن وموهبة، وإنه من الخطأ أن نثقل كاهل صاحب موهبة إعلامية بأعباء إدارية ستصرفه حتماً عن تنمية موهبته، إذ من السهل أن نجد 100 مدير، وليس في هذا تقليل من شأن المديرين، ولكن من الصعب أن نجد موهوباً حقيقياً واحداً، وقليلون هم، بل نادرون، أولئك الذين يستطيعون أن يحافظوا على إبداعهم وينموه وهم يقومون في الوقت ذاته بأعباء الإدارة الشاقة، كما وصفها عارف حجاوي، وضرب أمثلة عليها.

الذين يعرفون أعباء الإدارة ويقدِّرون مسؤوليتها يعلمون أنها ورطة كبرى، ويدركون أنها ليست ترفاً كما يظن البعض. ولهذا فهم لا يميلون إلى تكليف المبدعين بوظائف إدارية تحول دون مواصلة مسيرتهم الإبداعية، شريطة أن يوفَّر لهؤلاء المبدعين مسارٌ وظيفي يضمن الامتيازات والدرجات التي يحصل عليها غيرهم من أصحاب الوظائف الإدارية العليا، وأعرف مبدعين من دول خليجية وعربية حصلوا على درجات وظيفية رفيعة، مثل درجة وكيل وزارة على سبيل المثال، دون أن تسند لهم وظائف إدارية تؤثر على مسارهم الإبداعي، وهذا ما يتمناه كل مبدع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.