عمر الطبطبائي
تشير التطورات الأخيرة في السياسة الدفاعية الأوروبية، وعلى رأسها إعلان بريطانيا وفرنسا في يوليو 2025 عن تنسيق غير مسبوق في منظومات الردع النووي، إلى أن القارة تدخل مرحلة جديدة من إعادة توزيع أوراق القوة، الاتفاق الذي شمل تنسيق دوريات غواصات الردع النووي، تطوير مشترك لصواريخ الجيل الجديد، واستخدام نظم الذكاء الاصطناعي في إدارة عمليات الإطلاق والسيطرة، يمثل للمرة الأولى تكاملاً نووياً عملياً بين قوتين نوويتين أوروبيتين مستقلتين سياسياً، ويعكس إدراكاً متزايداً بضرورة بناء قدرات ردع ذاتية في مواجهة روسيا.
تأتي هذه الخطوة في ظل مؤشرات تراجع المظلة الأمنية الأميركية في القارة الأوروبية، حيث أعلنت المملكة المتحدة في مراجعة الدفاع الإستراتيجية (يونيو 2025) عن خطط لرفع إنفاقها الدفاعي من نحو 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5% بحلول 2027، مع طموح للوصول إلى 3% في البرلمان المقبل، كما أقرت استثمارات بمليارات الجنيهات في برامج الرؤوس النووية وغواصات SSN-AUKU والبنية التحتية الذخائرية، وهي برامج قدّر محللون أن تكلفتها السنوية قد تصل إلى نحو 3 مليارات جنيه إسترليني، رغم غياب رقم رسمي ثابت. في المقابل، وبحسب وزارة القوات المسلحة الفرنسية وبيانات المفوضية الأوروبية – وحدة أبحاث البرلمان الأوروبي، يبلغ إنفاق فرنسا الدفاعي حوالي 2.06% من الناتج المحلي الإجمالي (نحو 59.6 مليار يورو في 2024)، مع خطة لزيادته إلى 64 مليار يورو سنوياً بحلول 2027، ورفع موازنات البحث والتطوير الدفاعي، خصوصاً في مجالات الدفع النووي والأنظمة الصاروخية، بهدف الوصول تدريجياً إلى مستوى 3 – 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط.
من منظور روسي، تعتبر هذه الخطوة تصعيداً نوعياً، إذ ربطت وزارة الخارجية الروسية في بيانات رسمية بين هذا الاتفاق ومحاولات «تحويل الاتحاد الأوروبي إلى محور أمني مستقل معاد»، هذه القراءة تعكس إدراكاً في موسكو بأن التحالف النووي الفرنسي – البريطاني يهدف إلى تعويض أي فجوة في الضمانات الأميركية، وبالتالي تقليل هامش المناورة الروسي في المجال الأوروبي – الأطلسي، وهذه التحولات لا تبقى محصورة في المسرح الأوروبي، بل تمتد تأثيراتها إلى مناطق أخرى حيوية لأوروبا، وعلى رأسها الخليج العربي.
انعكاسات هذا التحول على الخليج العربي متعددة الأبعاد، أولاً في ملف الطاقة، يُتوقع أن يؤدي استمرار التوتر الأوروبي – الروسي إلى تعزيز الطلب الأوروبي على إمدادات نفط وغاز مستقرة من الخليج، ووفق البيانات الصادرة عن المفوضية الأوروبية – المديرية العامة للطاقة في إطار خطة «REPowerEU» الهادفة لإنهاء الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي، تراجعت واردات الغاز من روسيا من حوالي 40% عام 2021 إلى أقل من 10% في النصف الأول من 2025، هذا الانخفاض يفتح فجوة تُقدّر بنحو 80 مليار متر مكعب سنوياً، يمكن أن يساهم الغاز الطبيعي المسال الخليجي في تغطية نسبة معتبرة منها، خصوصاً مع توسع قدرات التسييل والنقل في قطر والإمارات وعُمان، واستعداد السعودية لدخول هذا القطاع عبر مشاريعها المستقبلية.
ثانياً، في البعد الأمني، قد تجد العواصم الخليجية نفسها أمام خيارين: الاستفادة من التواجد الأوروبي المتنامي في قضايا الأمن الإقليمي – سواء عبر شراكات دفاعية أو مبيعات أنظمة متقدمة – أو التحوط عبر بناء قدرات دفاعية محلية أكبر تحسباً لتقليص الوجود الأميركي المباشر. على سبيل المثال، جاءت بيانات «GAMI» لتوضح أن الميزانية الدفاعية في السعودية 2025 بلغت 78 مليار دولار، مقارنة بـ75.8 مليار دولار عام 2024، أي بزيادة فعلية حوالي 2.9٪ مع تخصيص 21% من إنفاق الدولة و7.1% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الميزانية، بينما الإمارات ضاعفت استثماراتها في برامج الدفاع السيبراني، في إشارة إلى إدراك متزايد لطبيعة التهديدات الهجينة.
ثالثاً، على مستوى الجغرافيا السياسية، أي تحرك أوروبي نحو تعزيز دور أمني في الخليج، قد يعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة. هذا قد يقلل من قدرة بعض العواصم على لعب القوى الكبرى ضد بعضها، لكنه في الوقت ذاته قد يوفر مظلة بديلة أو مكملة للمظلة الأميركية، السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القصير (1–3 سنوات) هو بقاء الدور الأوروبي مكملاً للدور الأميركي، مع إمكانية تحوله إلى دور أكثر استقلالاً إذا تراجعت واشنطن أكثر في التزاماتها الإقليمية.
في ضوء هذه المعطيات، يبقى التحدي أمام دول الخليج هو صياغة إستراتيجية مزدوجة لتعزيز الشراكات مع القوى الأوروبية للاستفادة من التكنولوجيا والدعم العسكري، وفي الوقت نفسه الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع واشنطن وموسكو وبكين، لضمان المرونة في بيئة إستراتيجية تتسم بسرعة التحولات، فمن دون هذه المقاربة المتعددة الأبعاد قد تجد دول الخليج نفسها رهينة اصطفافات دولية غير قادرة على التحكم في نتائجها.
اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.