تبدو هالة نهرا في كتابها الجديد "أمنح شعوبي أسمائي ال 7 " مثل مترهب يدخل معبد الشعر، ليقلب الأطر والمفاهيم، ويقول لمن في داخله: بيت الشعر الحُر هذا البيت يُدعى، وأنتم جعلتموه منبراً للزيف.
القصيدة الأولى وهي عنوان الكتاب، كنموذج يعكس روح الشاعرة وثورتها، تبدأها بالقول" أمنح اسما غريباً للمرايا، وتثاؤب الشمس في وجه الشاعرات النرجسيات". ترمي إلى تقديم مفهوم مختلف للشعر، وإشارة خاصة إلى اللواتي يفتقرن إلى الإبداع، ويعتمدن تقليد الآخرين. تصفهن بأنهن "يقلدن بوقاحة صدى الكعب العالي المطقطق في قصائد أخريات"، كمن يستنسخ أساليب غيره من دون إضافة لمساته أو لمساتها الشخصية. تتحدث عن شاعرات يقطفن القوافي من صوت خرير أناوتهن المقنعة بالجماعة، مشاعر وأفكار مغطاة أو مقنعة بالجماعة، يُعبّرن عن أنفسهن من خلال رؤية جماعية، أو في سياق مشترك مع الآخرين، بدلاً من الكشف المباشر عن ذواتهن الفردية. يكتبن الشعر بأسلوب مستوحى من مشاعر عميقة، لكنها تبقى أسيرة المجتمع والثقافة المحيطة.
تنتقد الشعراء الذين "من فرط ما افتكروا سهواً في الموجود نسوا الوجود"، ركزوا على التفاصيل السطحية ونسوا الجوهر والمعاني العميقة. "لم يمضغوا صوت هايدغر لحظة ولا هروب المعاني من ظلالها"، لم يتعمقوا في الفلسفة، ولم يبحثوا عن المعاني الخفية في كتاباتهم. يتناول نص الشاعرة موضوعات معقدة ومتشابكة، بلغة شعرية غنية بالاستعارات والصور البلاغية، وبعضها عصي على الفهم، ويتطلب تدقيقاً عميقاً للقبض على المعاني. تسمي الأشياء التي تعود إلى أصلها وتقول: "أمنح اسماً غريباً لكل ما يرجع عوده على بدئه": ' كضرب من تسمية أشياء تعود إلى أصلها، أو تبدأ من جديد بأسماء غريبة، ربما للدلالة على دورة الحياة أو تكرار الأحداث. تُشّبه نفسها بالخليقة لحظة انبهارها بالمتاهة كرمز للشعور بالدهشة والضياع في متاهات الحياة وتقول" كأنني الخليقة لحظة افتنان المتاهة، بما يُغندر مشَي الهواء على ظهر النغم العاري، كرمز إلى الانسجام أو الموسيقى الخالصة، وربما إلى التعبير الصادق النقي ويشرد الكلف على خد القمر سميسماً في قصيدة جائعة. نلحظ هنا صورة بلاغية لوصف انتشار النمش (الكلف) على وجه القمر، كبذور السمسم في قصيدة تفتقر إلى الإشباع، ما قد يرمز إلى نقص أو حاجة في التعبير الشعري. ومواويل مشفرة تدهن حناجر الرعاع بمقام جهاركاه" إشارة إلى أغانٍ أو أهازيج معقدة تُغنى بطبقة صوتية معينة، وتؤثر في عامة الناس، ربما للدلالة على تأثير الفن أو الموسيقى في المجتمع. ثم تتماشى مع إيقاع معين متناغم بين الحركة والإيقاع بقولها: "وتنصب للثغ أراجيح على إيقاع الأقصاق".
لا بد من أن يكون المرء ملماً بشي من الموسيقى ليفهم مقاصد الشاعرة، فهي تستخدم تعابير موسيقية تقنية مثل "جهاركاه" (مقام نادر في الموسيقى العربية يشبهونه بجنس العجم) وتعابير مثل إيقاع الأقصاق، التركي البطيء. ثم تقول "أمنح أصدقائي النبلاء وحدهم مجد النشيد الأخير" الناجي من هول أبولون (إله الفنون والموسيقى عند الإغريق)، وزلازل الضمائر السكرى من زبيب الأمجاد الزائفة وانقراض الأسبار في الحفلات التنكرية، أي الاحتفالات التنكرية التي تخفي الحقيقة. إنه رفض كامل للانخداع بالمظاهر الكاذبة والزيف الثقافي.
"أمنح وجه الوطن المراب كاللبن يظل صوتًا جديدًا من خزانة روحي الكونية" تتحدث عن وطن يبدو صامدًا لكنه ساكن. تمنحه صوتًا جديدًا مستخرجًا من أعماق روحه الواسعة، وتسعى إلى التعبير عنه وتجديد هويته بطريقة جديدة ومختلفة، وبرطمان حدس الملح الخشن الليركي لتدليك أضلع وأرجل الصرخة في طشت العلامة."
يفهم من هذه الصورة الشعرية أن الشاعرة تستخدم حدسها القوي (الملح الخشن) وصوته الشعري (الليركي) ليبعث الحياة في الوطن أو ليعالج أوجاعه، لكنها لا تريد مجرد صرخة عشوائية، بل شيئًا ذا معنى واضح ومؤثر، قد يكون علامة أو إشارة قوية تترك أثرها، وتنهي النص بالقول: أمنح شعوبي أسمائي السبعة تتكفل بأفق الوعد الباقي يرشني بذورا للآتي"، تمنح نفسها وأمتها أسماء كأنها بذور تُنثر في الأفق لتنبت في الأيام الآتية، حاملة الأمل والتجدد، وداعية إلى حقيقة أشد نقاءً وإبداعًا، متطلعة إلى مستقبل واعد كله أمل.
في الكتاب وهو من منشورات (دار فواصل )قصائد أخرى لا تقل قيمة ومكتوبة بعربية فصحى تمثل خلجات الشاعرة وصعودها وهبوطها وبعضها (ست قصائد) مكتوبة بكلمات عامية لبنانية بعضها قد يكون عصيا على الفهم لدى بعض القراء العرب مثل قصيدة "تِخمين القمر نسي يفل": أي "هل يا تُرى القمر نسي أن يرحل". قد يجد القارئ العادي في شعر هالة نُهرا، الفصيح منه والعامي" كماً كبيراً من الغموض، صيغ بلغة غير مألوفة زاخرة بالكنايات والاستعارات والصور، وفي اعتقادي أن الشاعرة، وهي تطبع خيالها على الورق، أدركت هذه الفروقات بين قصائدها وقصائد غيرها من الشعراء والشاعرات، لكنها نأت بنفسها عن التقليد، ولم ترد أن تكون نسخة عن صنائع آخرين، وآثرت أن تحتفظ بأسلوبها وبعباراتها، مدركة في الوقت نفسه، أنها المرايا الوحيدة التي تعكس ما يكتنف وجدانها من أفكار ولمحات خاصة وخاصة جدا. كان بوسعها أن تلجأ إلى السهولة وإلى التنميق، وصب المعاني بأشكال معهودة ترضي عددا أكبر من القراء، لم تفعل وهذا يُحسب لها في باب الصدق مع النفس، وتغليب الفكرة أو المعنى الفلسفي على الشكل، حتى لو كان ذلك على حساب جمالية العبارة!
تعتبر هالة نهرا الشعر مفتاح المعرفة وتقول "إنه الزفرة العميقة التي يطلقها الكون، والمفاتيح التي بواسطتها ينجلي بتقطر الغامض والمجهول والمحجوب واللامنظور والمخفي". ومهما يكن الرأي في صنيعها، يبقى الحكم عليه ليس سهلا، ولا يجب أن يمر القارئ عليه مرورا عابراً. إنه أشبه بالبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة كما تقول الفلسفة اليونانية القديمة، او كما البحث عن وردة بين الأشواك، قد يجدها قارئ ولا يجدها آخر، ومن القراء من يقبل التحدي، ويسير مع الشعر الذي يغلب عليه الجهد والتعب، كما هي قصائد هذه الشاعرة الشابة، يحدوه أمل الحصول على وردة يقطفها. قد لا يحصل على مراده بسهولة، وقد يدمي الشوك أصابعه، لكنه، وهو في مهمة الغوص في الينابيع، يشعر أن في البحث عن الوردة متعة لا تقل عن متعة الإمساك بها والتنعم برحيقها، وهذا القارئ، هو من يستحق الثناء عليه أكثر من غيره، والخليق أكثر من غيره بأن يُنظم له الشعر، وتُكتب له القصائد.