: آخر تحديث

العنصرية الكيميائية: عندما ترفض الذرات التعايش!

6
6
5

محمد ناصر العطوان

ابنتي -حفظ الله أبناءكم- في الصف العاشر، وتشتكي لي من مادة الكيمياء، فقررت أن أتصفح الجدول الدوري لعلي أخفف عنها صعوبة المادة من خلال أحاديثنا الصباحية في السيارة عندما أذهب بها إلى المدرسة، ولأنني تخصص أدبي، لم أستطع أن أفهم المعادلات، ولكني اكتشفت اكتشافاً مهماً أثناء تصفح الكتاب، وهو أن العناصر الكيميائية الأكثر فائدة هي تلك التي تتنازل عن «أنانيتها»، وتمنح إلكتروناتها، وتتقبّل الاختلاف، فالبروتين في أجسادنا، وحتى قهوة الصباح كلها نتاج كيمياء التعاون، لا العزل والتعنصر.

لو تخيلنا للحظة أن الطبيعة قرّرت تنظيم مؤتمر للعناصر الكيميائية، وخرجت منه بقرار جريء: «لا اندماج بعد اليوم! كل عنصر سيظل منعزلاً في برجه العاجي»، فماذا سنفقد؟ الإجابة ببساطة: كل شيء!

العناصر الفردية مثل الذهب والفضة قد تتباهى ببريقها، لكنها في عزلة تشبه ذلك الشخص الذي يملأ غرفته بجوائز وأوسمة ثم يكتشف أنه لا يستطيع صنع كوب شاي! فما قيمة الأوكسجين إن بقي وحيداً؟ مجرد غاز نتنفّسه بينما نموت عطشاً، لأن الماء (H2O) لن يُخلق من دون «زواج كيميائي» مع الهيدروجين!

أما المركبات، فهي نتاج «تعايش العناصر» رغم اختلافاتها، فالملح (كلوريد الصوديوم) على سبيل المثال ليس سوى قصة حب بين معدن متفجّر (الصوديوم) وغاز سام (الكلور)، لكنهما معاً يصنعان نكهة الحياة، بل عزيزي القارئ حتى الحديد المتغطرس بصلابته يضطر للاندماج مع الكربون لصنع الفولاذ، وإلا بقيت البشرية تعيش في أكواخ من خشب!

لذلك، مهما كنت عظيماً، فأنت «عنصر» فلا تتعنصر لكي لا تتمسخر وتعود إلى العصر الحجري والخشبي.

تخيلوا هذا السيناريو المليء بالكوميديا السوداء، الهيدروجين يرفض مشاركة إلكتروناته مع الأوكسجين، فيختفي الماء من الكون، وينتهي الحفل بجفاف كوني، أما الكربون فقرر عدم الارتباط بأحد، فتتبخر كل أشكال الحياة، وفجأة قرر الحديد أن يُصرّ على تفرده ويتعنصر على ذاته، فتسقط ناطحات السحاب مثل قطع الدومينو، لأن الأسمنت المسلح سيصبح أسطورة.

حتى «مجموعة النبلاء» الغازات النبيلة التي تتباهى بعدم اتحادها مع الآخرين، ستكتشف أنها بلا فائدة إلا في إضاءة لافتات المطاعم والإعلانات الفارغة أو من أجل نفخ البالونات بالهيليوم!

فهل نستحق -نحن البشر- أن نكون أكثر ذكاء من ذرات لا عقل لها؟ العناصر ترفض العنصرية لأنها تعرف أن بقاءها مرهون باندماجها، وهذا هو الدرس الذي خرجت به من الجدول الدوري، وهذا هو الدرس الذي أستطيع أن أخفف به على ابنتي صعوبة المادة والحياة.

في النهاية، لو كانت العناصر تتحدث لقالت: «انظروا إلينا وتعلموا، فالتعقّل يبدأ بالتفاعل، لا بالتعنصر!».

ولو طبّق البشر منطق العناصر المتعنصرة، لتحولت الأرض إلى كوكب من الذهب الخالص... جميلٌ جداً ولامع جداً ومتباهٍ جداً، لكنه عديم الفائدة، مثل عنصري يمتلك ثروة من الكراهية، ولا يستطيع صنع «صمونة»!... «قل كلٌ يعمل على شاكلته» (الإسراء: 84)، وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد