عبدالله الزازان
تعد كتابة السيرة الذاتية أو السيرة الغيرية والمذكرات أو «الأوتوبيوغرافيا» أو اليوميات أو كتاب الحياة أو أدب الاعتراف، ظاهرة حديثة نسبيًا في الثقافة العربية. وبالذات الكتابة التي تخضع للشروط الإبداعية والموضوعية في فن الكتابة الذاتية كالصراحة والوضوح والاعتراف الشجاع، باعتبار أن السيرة الذاتية غربية المنشأ والتكوين، تشكلت معالمها الكبرى في أوروبا. في العصر الوسيط بـ «اعترافات القديس أوغسطين» كأول نموذج لفن كتابة السيرة الذاتية. و ظهر من بعده كتاب «كورنيكا» للمفكر اليوناني الروماني كور ثيليوس ينبوس، ومذكرات الإسبانية ليونور لوينبردي كوردوبا والتي نشرتها في القرن الخامس عشر، وكتابي جيروم كاردان ومونتاني اللذان نشراهما باللغة اللاتينية في القرن الخامس عشر. وظهرت السيرة الذاتية في جنوب آسيا، عندما نشر مؤسس سلالة المغول بابور سيرته الذاتية، كما ظهر أدب المذكرات في الصين على يدي الكاتبين الصينيين شن فو، وشن تسون. إلا أنه بعد اعترافات روسو الشهيرة، بدأ الأدباء والفلاسفة والسياسيون والفنانون والمفكرون وأصحاب التجارب والمذاهب الفكرية يسجلون تجاربهم واعترافاتهم وقصص حياتهم وينشرونها على الملأ. وإن كانت الأوتوبيوغرافيا بالمعنى الاعترافي الشجاع الذي ظهر به روسو غير موجود في أدبنا العربي فكتب طه حسين «الأيام» وعباس محمود العقاد «حياة قلم» ولطيفة الزيات «أوراق شخصية» و«الجمر والرماد» لهشام شرابي، و«البئر الأولى» لجبرا إبراهيم جبرا، و«رأيت رام الله» لمريد البرغوثي، تتمثل الخطابية والتبرير والمثالية إلا أن «مذكرات شاهد قرن» لمالك بن نبي، وسيرة غاندي «قصة تجاربي مع الحقيقة» تعتبر من أفضل الاعترافات العربية والشرقية. واليوم أحرزت كتابة السيرة الذاتية، نقلة نوعية أدبية، وتطورًا ثقافيًا وفكريًا ملحوظًا وذلك بفضل التقدم العلمي والتقني والفكري والثقافي في السنوات الأخيرة، بفضل رؤية 2030 والتي قدمت منظورًا وطورًا حضاريًا جديدًا. نرى ذلك عندما نقرأ كتاب «مسرى العمر.. سيرة في دروب الاقتصاد» للدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز التويجري والتي كتبها بوعي، بعد أن أمضى سنوات طويلة من حياته العلمية والعملية بين نظريات الاقتصاد وتطبيقاته والتي كانت الخيط الناظم لحياته. واليوم بعد أن تكاملت رحلته الاقتصادية جاء هذا الكتاب لينقل لنا تجربته الاقتصادية بحيادية وموضوعية ورؤية منفتحة. أول مرة قابلت فيها الدكتور عبد الرحمن التويجري في واشنطن أوائل التسعينيات وكان أثناءها في صندوق النقد الدولي، وآخر مرة قابلته فيها قبل أيام في حفل غداء بمزرعة المهندس عبدالعزيز بن محمد التويجري في مدينة المجمعة، بحضور حشد كبير من الشخصيات الاجتماعية والعلمية والأدبية والثقافية. فالدكتور عبد الرحمن شخصية اجتماعية وإنسانية جذابة ومتواضعة ذات نبل رفيع ونمط فريد في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، لا يحيط نفسه بأي صفة استثنائية، وكان دوما هو نفسه، يأخذك الإعجاب بالروح التي يتحلى بها. تقرأ في كتابه «مسرى العمر.. سيرة في دروب الاقتصاد» العلاقة المتوازنة ما بين المثالية والواقعية والتي تمثل معظم أطوار حياته. فالكتاب يحوي مادة معرفية وتراثًا نوعيًا على مستوى الاقتصاد الحديث تقوم على مرجعيات علمية أكاديمية وخبرات اقتصادية تراكمية شكلت ملامح شخصيته الاقتصادية، وأحدثت له تحولًا نوعيًا ونقلات بارزة على مستوى المراكز والمناصب والمؤسسات والهيئات والمجالس الاقتصادية، باعتباره شخصية بارزة في الأوساط الاقتصادية والمالية. الكتاب يقدم صورة منهجية واضحة لرؤيته الاقتصادية دارسًا ومنظرًا واستشاريًا وقياديًا بارزا، فقد كان للدكتور عبدالرحمن التويجري منهجًا اقتصاديًا فريدًا ينسجم مع تطلعاته وأفكاره والذي كون من خلاله نظرة شاملة في الإدارة الاقتصادية الشاملة والتي هي نتائج فكره وفلسفته، والتي تكونت عبر دراسات علمية وخبرات وتجارب تراكمية، أحدثت نقلات نوعية وتحولات كبرى في القطاعات التي أدارها والمتمثلة في «الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وصندوق النقد الدولي، والمجلس الاقتصادي الأعلى، وهيئة السوق المالية». كان الدكتور عبد الرحمن التويجري مفكرًا ومطورًا وشخصية بارزة في التخطيط الاقتصادي ومن أذكى العقول، فقد كان يحاول من خلال الهيئات والمؤسسات والمجالس والصناديق الاقتصادية التي أدارها أن يقود حركة التطوير بمهنية وكفاءة عالية والتي تتلاقى مع أفكاره ودراساته وتطلعاته، حيث قدم منظورًا شاملًا ومستقبليًا لكيانات وصروح حديثة، وهنا يبرز الدور الكبير له في تبني اقتصاديات حديثة تعكس بجدارة عمق وعيه كدارس ومفكر ومطور، والتي جعلت منه نموذجًا فريدًا من القيادات المفكرة والملهمة. «مسرى العمر.. سيرة في دروب الاقتصاد» يمثل خلاصة أفكاره ونظرياته الاقتصادية، يتسم بالوضوح والموضوعية، ويتميز بالتحليلات العميقة، الحافلة بالوصف الدقيق والإحاطة الشاملة والاستنتاج البعيد. صدر الكتاب عام 2024 ولاقى انتشارًا مقبولا وحوى آراء ومبادرات ومواقف مهمة في الاقتصاد الحديث، حيث يعتبر واحدًا من أهم الكتب التي تجمع ما بين السيرة الذاتية والتجربة الاقتصادية والمتعة والفائدة. الكتاب مليء بالتجارب والتأملات والتفاصيل الشخصية والعلمية والعملية في إطار اجتماعي واقتصادي وإنساني.الأتوبيوغرافيا بين واقعية الغرب ومثالية الشرق
مواضيع ذات صلة