: آخر تحديث

عام اليمين الأوروبي

3
3
3

محمد خالد الأزعر

على الشواطئ الشمالية للمتوسط، خلّف العام 2024 وراءه معطيات تتفاعل بنعومة واطراد، تشي بتبلور مستجدات أيديولوجية وسياسية، ربما أفضت مستقبلاً إلى انعطافات فارقة بالنسبة لمسيرة الاتحاد الأوروبي.

جزء مهم من هذه المعطيات، يتعلق بتوجهات ورؤى كتل شعبية معتبرة، ما عادت تخفي امتعاضها واستياءها، بحيثيات تعبيرية غير مألوفة، من تعامل النخب الحاكمة مع قضايا حيوية، كاختلاف المكانات الاقتصادية وأنماط توزيع الثروات والمغانم والمغارم وحجوم التأثير في اتخاذ القرارات؛ التي استقرت مطولاً في العلاقة بين دول الاتحاد، وكذا داخل مجتمعات هذه الدول. وهي أمور يصل معظم الممتعضين بينها وبين المواقف من قضية الهجرة والمهاجرين، التي شغلت خلال 2024 موضعاً متقدماً في مناظرات الأوروبيين الفكرية والسياسية، على الصعيدين الاتحادي والقومي.

منذ إطلالتها، مضت التجربة الاتحادية الأوروبية، وهي محفوفة بالتفاوت بين دول وقطاعات اجتماعية اقتصادية غنية في الوسط والشمال، وأخرى أقل حظاً في جنوب القارة. كان هذا معلوماً للآباء المؤسسين. وفي هذا الإطار قبل الأغنياء إعانة الشركاء الجنوبيين، درءاً للنفوذ الشيوعي، ورغبة منهم في الدفع بوعود اقتصادية تستقطب الشرائح الفقيرة، بالمعنى النسبي بالطبع، خلف جهود الاتحاد.

هذه الآلية التكافلية نجحت لأكثر من نصف قرن في تحقيق أهدافها.. لكنه نجاح جاء على حساب أعباء زائدة، اضطلع بها أغنياء الاتحاد، لاسيما ألمانيا وفرنسا. والجديد هو أن هذه الأعباء، التي زادت باطراد وظلت مقبولة لعقود، باتت اليوم مدعاة لتأفف بعض القوى الاجتماعية والاقتصادية الغنية، التي ما عادت تستسيغ السخاء إلى ما لا نهاية.. والمفارقة أن هذه الأعباء ذاتها، أضحت تثير سخط بعض فقراء الاتحاد، بحسبها يسرت هيمنة أو سيطرة الأغنياء، على القرارات الاتحادية. وبغض النظر عن دواعي شكوى هؤلاء وهؤلاء، فإن الأمر ينطوي على اعتراف بأن الاتحاد الأوروبي لم يتمكن من دحر اللامساواة بين أعضائه.

الجديد أيضاً، أن شرائح شعبية أوروبية متزايدة، تمثلها أطر سياسية زاعقة، صارت تتحسس من تسارع عجلة عدم التكافؤ في فرص العمل والأجور، ووقوع الكثيرين بينها في أحابيل انخفاض الدخول والبطالة. وبدلاً من تفسير هذه الظاهرة بعوامل داخلية، كالاختلافات التاريخية في البنى الاجتماعية ومراتب التطور العلمي والتقني، وأوجه القصور في النظم والبرامج والسياسات الاقتصادية، يلوم هؤلاء قضية الهجرة والمهاجرين، وتتفاقم عندهم نوازع الانغلاق على الذات ورفض الآخر، هبوطاً إلى استخدام مفردات مشوبة بالتمييز العنصري.

كانت انتخابات 2024 الأوروبية، ترجمة صريحة لهذا المشهد العام.. حتى ليمكن القول بأنه كان عام قوى اليمين على المستويين الاتحادي والقومي. فهذه القوى، بمختلف أطيافها، حققت تقدماً ملموساً في عضوية كل من البرلمان الاتحادي والبرلمانات القومية على حد سواء.

هذه النتائج شكلت عموماً نوعاً من التحدي ومفاجأة غير سارة لتيار الاتحاديين. لكن استطراد فتور الناخبين تجاه التجربة الاتحادية إلى المجالين الألماني والفرنسي بالذات، أحدث ما يشبه الصدمة لما لهذين القطبين من دور تاريخي رائد وفاعل بقوة في المنظومة الاتحادية.

ويبدو أن الغيورين على هذه المسيرة، اتجهوا لتحري أسباب هذه الجفوة الجماهيرية طوال النصف الثاني من 2024. ومع أن جهداً كهذا لا يمكن أن يثمر في الأجل القصير، إلا أن معظم المقاربات في هذا السياق ترجح غلبة تأثير العوامل الاقتصادية في خيارات الناخبين، حتى داخل المجتمعين الفرنسي والألماني.

لقد لاحظ تقرير صادر عن شركة ستاتيستا الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين أنه «في عام 2023، كان 94.6 مليون شخص في الاتحاد الأوروبي (450 مليون نسمة)، معرضين لخطر الفقر أوالاستبعاد الاجتماعي». والمدهش أن المجتمعين الفرنسي والألماني المصنفين تقليدياً في مربع الأغنياء، لم يكونا استثناء في هذه الإحصائية.

يستسهل المتعصبون والانعزاليون القوميون؛ المرجفون بالتجربة الاتحادية في الفضاء الأوروبي، إلقاء مشكلات بلدانهم ومجتمعاتهم الاقتصادية على الوافدين وبعض السياسات الاتحادية. وهم بذلك، يقعون في شباك تكييف سطحي غير واقعي. من ذلك مثلاً، الغفلة عن تجليات العولمة وحراكية مؤسسات المال والأعمال، إلى حيث العمالة الرخيصة في أي مكان من الكوكب. ويتصل بذلك وجوباً، استقبال هذه المؤسسات لهذه العمالة إن جاءت إلى الرحاب الأوروبية، لتسد عجز سكاني بائن، وارتضت بشروط عمل وأجور لايقنع بها أبناء هذه الرحاب.

الشاهد، أن الأوروبيين، داخل الاتحاد وخارجه، بصدد معادلات اقتصادية صعبة المراس، لها مردودات وأصداء فكرية وسياسية عميقة الغور.. معادلات لن يحلها الارتداد إلى العقلية القبائلية القومية، لا في 2025 ولا في أي أجل آخر قريب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد