بداية يصح القول إن لبنان وقبرص ضحيتان لأزمة واحدة؛ إذ شكل النزوح منذ بدايات الأزمة السورية مشكلة كأداء في المنطقة، إلا أن خصوصية الواقعين اللبناني والقبرصي شكّلت امتداداً لمشاكل إضافية امتدت إلى المحيط الأبعد إقليمياً، وصولاً إلى دول الاتحاد الأوروبي الذي بات عنصراً رئيسياً في محاولة إدارة الأزمة من مختلف أبوابها.
لبنان يشكل من الناحية الجغرافية البعد البري للنزوح السوري، ومنطلقاً عبر شماله للبعد البحري المتمثل بقبرص كبوابة عبور إلى الحلم الأوروبي، وعلى الرغم من وعي الطرفين لطبيعة الأزمة القائمة وأبعادها، حاول الطرفان في العديد من المحطات استيعاب الأزمة ومحاولة التنسيق الدائم للحد من تداعياتها وآثارها السلبية؛ إذ سُجل العديد من بيئات التواصل الدائم وصولاً لزيارة الرئيس القبرصي الأخيرة للبنان، وقبله زيارة وزير الخارجية.
وفي الواقع أن حجم الأزمة القائمة حالياً حوّل تدفق النازحين السوريين بأعداد غير مسبوقة نحو قبرص؛ إذ بلغ حوالي ثلاثة آلاف نازح خلال الربع الأول من العام الحالي، في حين لم يصل إلى الثمانين نازحاً في الفترة نفسها من العام الماضي، ما يعني أن ثمة أسباباً مستجدة تستدعي الاستنفار السياسي والدبلوماسي بين البلديين.
لبنان الذي يستضيف مَنْ يفوقون ثلاثة ملايين نازح، عمل على ضبط حدوده البحرية بشكل مكثف، ونجح إلى حد كبير في إدارة الأزمة مع قبرص التي تشكل الوجهة الأولى للنازحين السوريين نحو أوروبا، إضافة إلى محاولة إيجاد آليات عمل تنفيذية مع الجانب الأوروبي لإيجاد حلول جذرية قابلة للحياة والبناء عليها.
ثمة إجماع على أن طبيعة النزوح السوري هي عملياً نزوح ذو طابع اقتصادي لا سياسي ولا أمني، فيما مواجهة الأزمة تقوم على قواعد أمنية لا سياسية، وبالتالي فتراكم الأزمة وتفاقمها في ظل أجواء دولية ضاغطة غير قادرين لمن يتخبط بها على تقديم الحلول الجذرية.
الاتحاد الأوروبي ارتكز، من حيث المبدأ، على تقديم المساعدات للبنانيين في ظل أزماته الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة. وهي مساعدات متواضعة جداً لا تسمن ولا تغني من جوع، فيما تقدم المساعدات للنازحين السوريين في لبنان بسخاء كبير، ما أسماه البعض وسيلة للتشجيع على البقاء في لبنان وعدم العودة إلى مناطقهم التي باتت آمنة، أي بمعنى أن ثمة من يصف إدارة أزمة النازحين في لبنان بالتوطين المقنع، بعد شيوع أخبار متواترة عن عمليات «ترانسفير» في المنطقة، وإعادة رسم جغرافيات سياسية جديدة مغايرة للقائمة حالياً.
أما قبرص، فتتعامل مع الأزمة بتوجس وخوف كبيرين، فهي عضو في الاتحاد الأوروبي، وتمارس حقوق الانضمام للاتحاد بفاعلية عالية، وتقف خلف مجموعة كبيرة من اللوائح والأنظمة القانونية التي سنّها الاتحاد لمواجهة تلك القضايا عند حدوثها وتمددها، فيما لبنان لا يملك عملياً قدرات المواجهة إلا بإمكانات متواضعة وغير فاعلة، وهو حق سلبي من الوجهة القانونية؛ إذ يتعامل مع قبرص من بوابة عضويتها في الاتحاد الأوروبي؛ لممارسة ضغوط على الاتحاد كتقديم المساعدات للنازحين في الداخل السوري وليس خارجه. إضافة إلى مساعدة لبنان على ضبط حدوده الشرقية مع سوريا لضبط النزوح وعدم تفاقمه وانفلات الأمور من عقالها، مقابل تشدد لبنان في ضبط حدوده البحرية الشمالية، وعدم السماح لانطلاق النازحين من شواطئه الشمالية إلى قبرص كمحطة للمتابعة نحو أوروبا.
لقد تأثرت العلاقات البينية اللبنانية القبرصية، مؤخراً، بملف اللجوء غير الشرعي نحو أوروبا، وهو بطبيعة الأمر ليس ملفاً مستجداً، بل جرت متابعته أوروبياً عبر مؤتمرات ذات طبيعة دولية وإقليمية. ورغم تعدد الأطراف المشاركة برعاية الأمم المتحدة، ظلت المعالجات متواضعة مقارنة بحجم المشكلة وأبعادها، وتركزت بشكل أساسي على بيئات وخلفيات أمنية، فيما لم تتمكن من الولوج في الحلول السياسية والاقتصادية للمشكلة، فلبنان الذي يرى أن مفتاح الحل يكمن في تأمين ظروف العودة الآمنة، إضافة إلى التشجيع عليها عبر تقديم المساعدات المالية والاقتصادية في الداخل السوري لا خارجه، وهذا ما تم التأكيد عليه في لقاء الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليدس، مع رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، والذي شدد على استثمار العضوية القبرصية للاتحاد الأوروبي، وتشجيعها على تنسيق جهود المساعدات الأوروبية عبر اتفاقيات ثلاثية الأطراف كما عقدتها قبرص مؤخراً مع كل من تونس، والجزائر مع الاتحاد الأوروبي، لمكافحة الهجرة غير الشرعية من شمال إفريقيا إلى الاتحاد الأوروبي عبر البحر الأبيض المتوسط.
عملياً وواقعياً، يشكل اللجوء حول العالم مشكلة كبيرة تتطلب جهوداً دولية متكافئة ومتكافلة، على أن تتم المحاولة بعدم الاتكال على الدول الصغيرة ذات الإمكانات المتواضعة التي عادة ما تشكل جسر عبور نحو مناطق أخرى كالدول الأوروبية التي تعتبر الأكثر جذباً للاجئين، وهذا ما ينبغي العمل عليه مع كل من لبنان وقبرص، في حين أن عبء الهجرة يطالهما بشكل ثقيل، ما يراكم تداعيات المشكلة ويفاقم تكاليف حلولها، إن وجدت، في ظروف دولية شديدة الخطورة والحساسية؛ حيث تشتعل الحروب وتهيّئ المزيد من أعداد اللاجئين نحو دول العالم التي تئن من مشاكلها المتفاقمة يوماً بعد يوم.