مشهد الفوضى في منطقة الشرق الأوسط ليس غريباً في ظل ما يحدث في العقدين الأخيرين، ولكن الحاصل أن الفوضى قد بلغت ذروتها وباتت معالمها وأطرافها أكثر وضوحاً من ذي قبل، فإيران ووكلائها وأذرعها الإرهابية يفتحون جبهات جديدة بشكل متسارع، والأمر لم يعد يقتصر على إسرائيل والأهداف الأميركية، حيث رأينا منذ أيام المغامرة بقصف أهداف داخل باكستان، وكيف استشاطت إسلام آباد غضباً لما حدث من انتهاك لسيادتها على أراضيها وردت بشكل قوي وعنيف وسريع على السلوك الإيراني المتهور.
بلاشك أن هناك صراع واضح الملامح بين إيران ووكلائها من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية، وهذا الصراع مرشح للتصاعد في غضون الفترة القليلة المقبلة، ولاسيما أن العمليات الإسرائيلية الخاصة التي تستهدف عناصر قيادية في الحرس الثوري تتسارع وتصيب الإيرانيين بحرج بالغ.
مقتل خمسة مستشارين بارزين للحرس الثوري الإيراني في سوريا يمثل ضربة استخباراتية جديدة لها دلالات نوعية خطيرة، كونها تعكس حجم ومستوى انكشاف تحركات قادة الحرس الثوري لعمليات الرصد التي تقوم بها أجهزة المخابرات الاسرائيلية، وتعكس بموازاة ذلك مدى ترهل وضعف القدرات الاستخباراتية الإيرانية، لاسيما أن هذه ليست العملية الأولى من نوعها التي يغتال فيها قادة بارزين للحرس الثوري، كما أنا تأتي عقب عمليات اختراق أمني متكررة للداخل الإيراني، وجميعها تؤكد أن نقطة الضعف الرئيسية لدى إيران تكمن في ضعف قدراتها الاستخباراتية، وربما يعود ذلك بالأساس للتفوق التقني الذي يوفر لإسرائيل ميزة الترصد والمراقبة والتتبع
الاختراقات الاستخباراتية الإسرائيلية تحديداً لمواقع إيرانية واستهداف شخصيات يفترض أنها تحظى بمستويات دقيقة من الحماية الوقائية وبشكل متكرر على مدار السنوات والأشهر الماضية، يعني أن ثغرات أمنية لا يتم اكتشافها أو يصعب معالجتها، وهو أمر ليس باليسير بالنسبة للجانب الإيراني، حيث يمكن أن تؤدي الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لشخصيات إيرانية في سوريا إلى الحد من الوجود الإيراني، أو على الأقل على المستويات القيادية الرفيعة، التي ثبت أنه من الصعب توفير الحماية الأمنية اللازمة لها.
قناعتي أن توالي الضربات الإسرائيلية ضد شخصيات وكوادر قيادية إيرانية رفيعة المستوى يمكن أن يسهم في ردع النظام الإيراني ووكلائها، لاسيما أن قيادات هذا النظام وأذرعه الميلشياوية تضع بقائها على قيد الحياة أولوية تفوق ما عداها من أولويات، بل إن بقائها هو رمز النصر و"المقاومة" وغير ذلك من شعارات، والعكس ـ في واقع الأمر ـ صحيح تماماً، وبالتالي فإن من المؤكد أن هناك مراجعات أمنية ستجري بسرعة فائقة للملمة شتات القادة المعرضين للاستهداف إسرائيلياً، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان، ناهيك عن اليمن والأراضي الفلسطينية، ولا نعتقد أن ضربات "الموساد" الإسرائيلية في هذا الشأن لها علاقة مباشرة بما يحدث في غزة، فهناك على الأرجح مخطط للرد على إيران ومحاولة التصدي لتهديداتها المتزايدة، ولاسيما فيما يتعلق بسلوكيات الأذرع الميلشياوية التي سعت جميعها لاستهداف إسرائيل خلال حرب غزة.
ما نراه الآن بوضوح هو حرب غير مباشرة بين إيران وإسرائيل، ولم يعد الدور الإيراني في دعم الميلشيات بالسلاح والعتاد والتخطيط وتنفيذ الهجمات أيضاً يخفى على أحد، فقد انكشف كل المستور، أو معظمه على الأقل، وتباهى مسؤولين إيرانيين علناً بتزويدهم لحركة حماس الإرهابية بالسلاح والعتاد وتدريب عناصرها، وهناك ترسانة من المعلومات والأسرار في هذا الشأن نثق في أنها في جعبة الولايات المتحدة التي ظلت تتكتم على الدور الإيراني طيلة السنوات الماضية وحتى الآن، سواء طمعاً في إحياء الاتفاق النووي، أو تجنباً لأن تضع هذه المعلومات واشنطن أمام مسؤولية الرد على التهديدات الإيرانية التي طالما انكرتها أو على أقل التقديرات غضت الطرف عنها لمصلحة أهداف ترى أنها أهم وأولى أميركياً.
خير مثال على ماسبق هو الموقف الأميركي تجاه ميلشيا "الحوثي"، التي سارعت إدارة الرئيس بايدن لرفعها من قائمة الإرهاب، وحاولت بشتى الطرق ثنيها عن سلوها المثير للفوضى والاضطرابات، ولكنها ما لبثت أن اكتشفت خطأ تقديراتها حين وجدت هذه الميلشيا تعرقل حركة التجارة العالمية وتقصف أهدافاً إسرائيلية وأميركية، ما دفع الولايات المتحدة لتغيير موقفها فورياً وإعادتها إلى قائمة الارهاب والتعامل معها بشكل عسكري صارم!
بلاشك أن ما يجري في البحر الأحمر لا علاقة له بحرب غزة كما يزعم الحوثيون ومن خلفهم الإيرانيين، والحاصل أننا بصدد توظيف لهذه الحرب لتحقيق أهداف استراتيجية إيرانية تتعلق بمحاولة كسب المزيد من النفوذ الاقليمي، وإظهار القدرة على تهديد الأمن البحري، فضلاً عن محاولة الضغط من أجل تحجيم الوجود البحري الأميركي في الخليج العربي وبحر العرب، وهي المنطقة التي تراها إيران ساحة نفوذ حصرية لها.
النقطة الأساسية هي أن إيران تريد إبلاغ رسالة مفادها أنها تستطيع إشعال أو تهدئة الشرق الأوسط، وأنها لاعب رئيسي لا يمكن تجاوزه، وهنا لا يمكن فهم التصعيد المتسارع في الوقت الراهن بمعزل عن الخطط والمقترحات المتداولة بشأن مصير قطاع غزة، حيث لا ترغب إيران في أن ترى اندحاراً أو اقصاء نهائياً، لأحد أهم وكلائها، وهو حركة حماس، التي تغيب تماماً عن جميع نقاشات اليوم التالي للحرب، وهو خبر سىء لإيران، ولا يمكن تخيل صمتها حياله، ومثله مثل حديث عن لبنان من دون حزب الله، واليمن من دون الحوثيين، حيث تدرك إيران أن فقدان أحد أذرعها قد يكون مقدمة لنزع البقية أو الانقضاض عليهم.