فجَّر الصديق الناقد والكاتب العراقي د. ضياء خضير قنبلةً من العيار الثقيل، لمجازر الدراسات العليا التي تحدث في جامعاتنا، وهي مجازرُ علمية لا تحدث حتى في مجازر اللحوم خارج سلطة بلدية الدولة!، وذلك عندما لخَّص قصته مع الدراسات العليا، وما كتب عن أعماله النقدية في رسالة دكتوراه في إحدى الجامعات العراقية العريقة، فقال - بألمٍ كبير -: "فوجئت حين أكملت قراءة ما كتبَتْه الطالبة - صاحبة الرسالة - قبل مدة، أن ما كتبته يبدو كما لو كان مكتوبًا عن شخص آخر لا أكاد أعرفه؛ اسمه: ضياء خضير"!
وهذه الجملة القصيرة، هي نبذة مختصرة عمَّا وصل إليه العلم من فواجعَ وأمراضٍ مُزمنة قاتلة، فقد أصبح البلد مُكتظًّا بآلاف الشهادات العليا - الضعيفة والمزورة - التي لا تُنتج علمًا نافعًا لتطوير الحياة، وهو يشبهُ طوفان النفط الذي نسمع عن خيراته دون أن ينقذ فقراء بلادي من الفقر والعِوَز والمرض! كلاهما يصنع لنا عواصف الأزمات المليئة بتراب الجهل والفشل، وطاعون الموت البطيء!
ويبدو أنَّ شهادة الزميل ضياء على نكبات ما يحدث من عبث علمي، وتدهور في نظام وآليات الدراسات العليا، وضعف المناهج العلمية المتَّبعة، هي شهادة صادقة ودقيقة من أحد مبدعي العراق في النقد الأدبي والكتابة الثقافية، وأبرز المساهمين في تطوير التدريس والبحث العلمي والدراسات العليا في العراق وخارجه، وهي تعكس صورة المشهد العلمي الحزين التي تعيش فيه جامعاتنا، خاصةً في تخريج الكوادر العليا.
فما قاله عن رسالة الدكتوراه التي تناولت أعماله النقدية بأنها: (كتابة لا تستحق أن تكون تقريرًا تقدمه طالبة في بحوث التخرج في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، وهو فيما يبدو نموذجٌ مؤسف مما يجري هذه الأيام في بعض جامعاتنا وأقسامها العلمية والأكاديمية من تساهُلٍ وضعف في منح الشهادات العليا في الأقسام الإنسانية -بشكلٍ خاص-)، مثلما يُشير إلى أن هناك تنشئةً علميةً خاطئةً في تبنِّي المناهج التقليدية، وضعف في الأقسام العلمية من ناحية الكوادر التدريسية؛ من حيث: العدد، أو المراتب العلمية، أو سنوات خبراتهم، وآليات اختيار الطالب والرسالة والعناوين ولجان المناقشة.
بات واقع الدراسات العليا هشًّا يفتقر إلى الرصانة والإبداع والاستقراء والنقد والتحليل؛ فهناك أزمة في أعضاء هيئة التدريس المؤهَّلين من أصحاب الخبرات والمراتب العلمية، وإدارات قيادية ضعيفة غير مؤهَّلة لقيادة العملية التعليمية. وهناك عناوين تقليدية وجاهزة ومكرَّرة تغيب عنها حداثة العصر والعقلانية والموضوعية، تقوم على مبدأ التبرير - لا التعليل -، والإسراف في موضوعات التراث؛ حيث إحياء الموتى لإثارة النعرات الدينية والمجتمعية، وإعدام العصر بأفعال الماضي.
إقرأ أيضاً: سيرتي في الصحراء
ما زلت مصرًّا على أن هناك فضيحةً في الدراسات العليا لا تحتاج إلى عبقريٍّ لتفكيكها، مثلما هناك أطنانٌ من نياشين الدكتوراه تُوزَّع على الكثير ممن لا يستحقونها! حيث الغزو المبرمَج من الداخل والخارج؛ لجعل (الدكتوراه) ظاهرةً بلا محتوىً علمي، وتجريدها من قيمتها الرمزية؛ ليتحول (بلد الدكتور) إلى سوق (شهادات) في بورصة الجهل والتزوير، لتُمنح لمن يستحقها أحيانًا، ولمن لا يستحقها أحايينَ أخرى كثيرة!! وشتان بين مَن يطلب العلم لأجل العلم، وبين مَن يطلبه للوجاهة الاجتماعية المزيَّفة.
وكما قلت - سابقًا -: إنه العجب العجاب أن نرى مجتمعنا يُحطم الرقمَ القياسيَّ لأعداد مَن يحمل ألقاب (الدكتور والمفكر والباحث والإستراتيجي)، فهو أكثر مجتمع (اخترع) الطائرات والسيليكون والذكاء الاصطناعي والذرَّة. وهو مجتمع ما يزال في أدنى سُلَّم التطور البشري، ولا يزال يستورد ملابسه ومأكله ومشربه وأقلامه وقرطاسيته وأوراق التواليت من الخارج!
إقرأ أيضاً: صارت فلسطين قصة طائفيّة
إنها متناقضاتٌ غريبة؛ فبينما عراقنا عائم على كنوز النفط الأسود، وتكثر فيه الألقاب العلمية والإعلامية الكثيرة؛ غير أنه لا ينتج سوى زيت التخلُّف، ودخان الجوع، وفقر العلم والاختراعات؛ وعلى النقيض: لا نجد زحامًا في تلك الألقاب العلمية والثقافية، بما يتبعه من تفاخر في مجتمعات أخرى! رغم أنها تنتج لنا كل يوم - بل كل ساعة - مبتكرات العلم والحياة!
صارت (الدال) اليوم علامة فارقة للتندُّر والطرائف والضحكات، وأصبحت مقرونة بأوصاف لا يليق ذكرُها في هذا المقام؛ بل أصبحت سُبَّةً بعد أن كانت مفخرةً لصاحبها! حيث تُباع في كليات (السوبر ماركت)، وفي الطرقات والدكاكين، ومكاتب بيع الشهادات العليا؛ فيخرج من معطفها كلٌّ من: السياسي الحرامي، والنائب الانتهازي، والوزير الفاسد، والحزبي المنافق، والشاب العاطل، والبيئة الملوَّثة بالمخدرات والحزن والنحيب، وصنّاع التفاهات الرقمية.
إقرأ أيضاً: احذروا خداع الثعلب "الإسرائيلي"
ما زلت حزينًا ومتعاطفًا مع حروف صديقي الناقد، وهي تنزف ألمًا على حال العلم والدراسات العليا، وما سطَّرته طالبة الدكتوراه حول أعماله النقدية من (ألاعيب وادعاءاتٍ علمية ومنهجية معروفة بحق كاتب ما زال حيًّا يُرزق!). وهو ما يثير التساؤلات حول ما يحدث في الدراسات الأخرى التي (تُكتب بحق كتابٍ ومؤلفين أموات لا يستطيعون أن يخرجوا من قبورهم لبيان حقيقة ما يُقال ويُكتب عنهم؟!).
ما زلت مندهشًا ومستغرّبا بما ذكره الناقد بأن ما كُتب عنه يعود لشخصٍ آخر لا يكاد يعرفه؛ اسمُه: ضياء خضير!