بالرغم من قوة ونوعية الضربة التي تعرّضت لها إيران في عقر دارها باغتيال إسماعيل هنية في طهران في 31 تموز (يوليو) الماضي، وبالرغم من كل الدعاية الإيرانية ودعاية الميليشيات التابعة لها التي تقوم على فكرة الرد والانتقام بعد أن علا صوت الوعيد والتهديد، والحديث ليل نهار عن القدرات العسكرية الإيرانية، فإنَّ الرد الإيراني لم يأتِ حتى الآن. هذا التأخير يثير العديد من التساؤلات حول أسبابه، خصوصًا بعد تصريح الجنرال في الحرس الثوري الإيراني علي محمد نائيني خلال مؤتمر صحفي في طهران، الذي أشار إلى احتمال أن تستغرق فترة انتظار الرد وقتًا طويلاً. يطرح هذا الواقع مجموعة من الفرضيات الرئيسية حول أسباب تأخر الرد، بعضها يرتبط بوجود حالة من الانقسام داخل دوائر صنع القرار الإيرانية بخصوص جدوى التصعيد الشامل مع إسرائيل، وبعضها الآخر يتعلق بتطوير تكتيكات إيرانية جديدة بعد فشلها في اختراق الدفاعات الأميركية والإسرائيلية في هجماتها في نيسان (أبريل) الماضي، فيما يرتبط بعض الفرضيات بالحرب على غزة ومسار المفاوضات الجديدة التي بدأت في الدوحة في 15 آب (أغسطس) الجاري وستستكمل في القاهرة.
بناءً على تحليل الحالة العامة في إيران وقراءة الوضع الإقليمي، يمكننا القول إنَّ الرد الإيراني، إن حصل، سيتحدد في إطار نقطتين محوريتين تشكلان الأساس لأيّ فعل أو رد فعل إيراني في المنطقة، سواء أكان سياسيًا أو عسكريًا. النقطة الأولى هي تجنب التهديد الوجودي للنظام الإيراني، أي تفادي الأخطار التي تهدد بقاء النظام واستمراره. هذه النقطة تشكل أحد أهم محددات السياسة الإيرانية، وقد عبّر عنها المرشد الإيراني السابق آية الله الخميني عشية انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، حيث أكَّد أنَّ تجرع السم والبقاء بشكل استراتيجي ومحسوب هو السبيل لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، مفضلًا ذلك على الحماسة الثورية والمغامرة.
أمَّا النقطة الثانية فهي الوصول إلى الهدف مهما طال الطريق أو تطلب ذلك من تضحيات، حيث يحدد تحقيق الهدف حيوية وصوابية الفعل ورد الفعل، وفق استراتيجيات محددة ومرسومة بدقة، وليس مجرد الانتقام. هذه النقطة تعبر عنها إيران بسياسة "الصبر الاستراتيجي"، وهي أيضًا من ثوابت السياسة الإيرانية وأحد أهم محدداتها.
بالتالي، فإنَّ الرد الإيراني، حتى لو تأخر، لن يخرج عن إطار هاتين النقطتين. يحاول النظام الإيراني حاليًا مسك العصا من المنتصف، فهو من جهة يريد أن يردّ لحفظ ماء وجهه والحفاظ على ولاء أذرعه في المنطقة التي تطالب بردٍّ رادع، لكنه من جهة أخرى يعلم أنَّ الهجوم الكبير على إسرائيل قد يجر إيران إلى حرب مع إسرائيل وربما مع الولايات المتحدة. لذلك، لا يرغب في المخاطرة بإشعال حرب كبيرة قد تؤدي، في حال فشلها، إلى اندلاع ثورة داخلية ضده في إيران. يدرك النظام الإيراني أنَّ أيّ ضربة إسرائيلية – أميركية للبنية التحتية الحيوية في إيران، مثل محطات الطاقة ومصافي النفط والمرافق النووية، قد تعيد البلاد إلى الوراء سنوات وتزيد من تعميق أزمتها الاقتصادية، مما قد يدفع إلى موجة احتجاجات جديدة تفاقم الوضع.
إقرأ أيضاً: الشُعوبيون الجُدد
يرى العديد من الخبراء أن مماطلة النظام الإيراني في الرد تأتي في إطار إتاحة الفرصة لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة لحشد أكبر قوة ممكنة لصد الهجمات الإيرانية المحتملة وتقليل الخسائر، لتفادي حرب كبيرة في المنطقة. هذا يتماشى مع عقيدة إيران في تجنب الدفع نحو مواجهة مباشرة وكبيرة مع إسرائيل، على الأقل في هذه المرحلة. بذلك، قد ينفذ النظام الإيراني تهديداته بالرد على اغتيال إسماعيل هنية، وفي الوقت نفسه، يتجنب الدخول في حرب كبيرة مع إسرائيل والولايات المتحدة قد تهدد بقاءه. فهو يعلم أن مصلحة نظامه والاعتبارات الداخلية في إيران تطغى على حماسته الأيديولوجية.
وعليه، يمكن القول إنَّ كل السرديات التي تزعم أن إيران تؤجل هجماتها على إسرائيل كي لا تشوش على المفاوضات التي تجري عبر الوسطاء كقطر ومصر بين إسرائيل وحماس، وكذلك لتستغل التبعات النفسية ضد إسرائيل، على اعتبار أن تأجيل الضربة جزء من الضربة أو جزء من الحرب، ما هي إلا ذريعة لتبرير تأجيل الرد. فالتفكير الإيراني في الرد المضاد الإسرائيلي – الأميركي المحتمل، وتقدير المخاطر الناجمة عنه، يفسر تأخير وتردد إيران في ردها على اغتيال هنية، خصوصًا بعد زيادة حشد القوات البحرية الأميركية الاستثنائية في المنطقة، والتي تكفي ليس فقط لصد الهجوم الإيراني بل أيضًا لتوجيه ضربات لإيران وحلفائها.
إقرأ أيضاً: عن متلازمة الاستبداد والفساد
ختامًا، يمكن القول إنَّ المقاربة الإيرانية حتى اللحظة تميل إلى تجنب الدفع باتجاه مواجهة مباشرة وحرب مفتوحة مع إسرائيل، استنادًا إلى مجموعة من التخوفات المرتبطة بتكلفة الحرب الشاملة بينها وبين إسرائيل. لذلك، النظام الإيراني في الوقت الراهن ليس في وارد تغيير طريقة تعامله مع الملفات الإقليمية الأمنية التي تهمه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فعقيدته الأمنية تحتم عليه، في سبيل ضمان استمراره وبقائه والحفاظ على أمنه، الالتزام بلعبة التصعيد المحدود والمدروس. لذلك، سيبقى النظام الإيراني يعمل بمرونة وصبر لإيجاد الفرص واستغلالها عبر السير قرب الحافة دون تجاوز الخطوط الحمراء.