تطورات ملحوظة طرأت على السياسة السعودية حديثاً، تتواكب مع تنامي مكانتها الإقليمية والدولية وتتوافق معها. وليس خافياً أنَّ علاقة وثيقة تربط بين الدور الذي تتطلع أي دولة إلى أدائه، وبين ماهية السياسة التي تتبناها في سبيل تحقيق ذلك. إذ يصعب أن تضطلع دولة ما بدور يتجاوز حدودها، إذا كانت تطبق سياسة لا تفارق الأطر الجغرافية الضيقة الخاصة بها. من ناحية ثانية، فإنَّ ما سبق سيبدو معطلاً في حال وجود فراغ سياسي إقليمي ودولي، إذ أنَّ الكثير من الدول تتمدد أدوارها الإقليمية والدولية بما يتوافق وعناصر القوة المتاحة لها.
إقرأ أيضاً: إلى أين يتجه إقليم كوردستان؟
تقع السعودية في قلب إحدى أهم المناطق الاستراتيجية في العالم، وهي المنطقة الأكثر استهدافاً من قبل القوى الإقليمية الصاعدة والقوى الدولية الكبرى، حيث كانت إبان الحرب الباردة محور صراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وتغير اللاعبون اليوم بفعل الصعود الإيراني والطموح الصيني والتمدد الروسي، لكن الحلبة لم تتغير، لا سيما في ضوء التراجع الأميركي وانحسار سياسة واشنطن دولياً، لتصبح السيناريوهات والمقاربات محدودة أمام دول المنطقة، بالنسبة لدور دولة محورية وقيادية كالسعودية. فإمَّا التبعية والاحتواء من قبل القوى الأخرى لتملأ فراغات القوة، وإما تبني سياسة أكثر واقعية وبرغماتية تقوم على تنمية القدرات والطاقات المحلية وبناء تحالف إقليمي يراعي مصالح دول المنطقة، ويتعامل مع القوى النافذة فيها بسياسات أكثر واقعية، تقوم على مراعاة المصالح المشتركة والمتبادلة، وخلق قوة خليجية مؤثرة.
إقرأ أيضاً: ولاية عهد الكويت بين التكهنات والتأملات!
ولعل ما ساعد على ترسيخ هذه السياسة الواقعية دور القيادة السعودية الذي تجسده رؤية وسياسة المملكة راهناً، ومن أبرز معالمه ومظاهره الحيوية والفعالية تبني سياسة أكثر واقعية وأكثر مرونة. فالسعودية اليوم تشهد مرحلة تحول كبرى في بناء الدولة، قوامها رؤية أكثر انفتاحاً ومرونة وواقعية وتكيفاً واستجابة. هذه الواقعية نرى صورها في العديد من القضايا الإقليمية والدولية، وأولها إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس من الندية والمصالح المشتركة، بعيداً عن التبعية الاستراتيجية التي كانت سائدة في العلاقة مع الولايات المتحدة. هذه السياسة، لا تعني التخلي عن العلاقات الاستراتيجية والتحالفية بقدر إعادة صياغتها على أسس واقعية، ومراعاة حقيقة أنَّ لكل دولة مصالحها ورؤاها السياسية.
ثانياً، ثمة اتجاه سعودي ملحوظ إلى تنويع العلاقات والشراكات الاستراتجية مع القوى الصاعدة عالمياً، كالصين وروسيا، حيث لم تعد الأيدولوجية الصلبة تقف حائلاً دون هذه العلاقات، التي باتت تحكمها تحولات القوى الدولية والدور الذي تلعبه الصين وروسيا، كما تحكمه المصالح الاقتصادية والتجارية. ونجد ثالثاً حرصاً على تعزيز العلاقات التقليدية مع دول الاتحاد الأوروبي، وتوسيع شبكة العلاقات الاستراتيجية مع الكثير من الدول الأخرى. ومن مظاهر هذه الواقعية في الدبلوماسية السعودية الموقف من قضايا دول المنطقة، لا سيما قضايا السلم والحرب.
إقرأ أيضاً: تنسيق جهود الاغتراب لدعم الحل في سوريا
ولعل من أبرز ملاح الدبلوماسية الواقعية الاتفاق السعودي الإيراني، الذى يشكل تحولاً بارزاً في العلاقات بين البلدين، من واقع الاعتراف بتحولات القوى ومصالح كل من البلدين، والواقعية في عدم جدوى الاستمرار في الحرب في اليمن، وعدم جدوى خيار الحرب لمعالجة مشاكل المنطقة، حيث لكل دولة مصالحها ونفوذها. وفي هذا الصدد يشير الخبير في السياسة الخارجية السعودية بجامعة برمنغهام عمر كريم إلى أنَّ الاتفاق مع إيران على وجه الخصوص يمثل تغييراً جذرياً في النهج السياسي، ويشير إلى نضج وفهم أكثر واقعية للسياسات الإقليمية.
تنطلق هذه الواقعية من رؤية تهدف إلى تصفير الخلافات الإقليمية التي تستنفذ إمكانات وقدرات الدول، والتركيز على الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وتحقيق رؤية 2030. وتقول الباحثة آنا جاكوبس من مجموعة الأزمات الدولية "إن خفض التوتر مع إيران طريقة ذكية لخفض التوترات في جميع أنحاء المنطقة، وتخفيض حدة بعض المعارك بالوكالة التي تطوق السعودية". ويتماشى ذلك مع إشارة أحد المسؤوليين السعودييين إلى أنَّ "رؤيتنا هي شرق أوسط مزدهر، لأنه بدون أن تتطور منطقتك ورؤيتك، سيكون هناك حدود لما يمكنك أن تحققه".
إقرأ أيضاً: أرى رؤوساً (في إيران) قد أينعت!
من أبرز القضايا التي تعاملت معها الدبلوماسية السعودية بواقعية قضية السلام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فالسعودية لا تعارض السلام، لكن من منطلق الربط بين السلام الشامل والتسوية النهائية المؤدية إلى قيام الدولة الفلسطينية. فالسلام لا بد أن يكون له قوة وثمن.
يبقى أن هذا التحول إلى السياسة الواقعية ارتبط بعوامل كثيرة، أهمها التحول في مفهوم الدولة السعودية الجديدة، وتبني سياسات أكثر تنويرية وحداثة، إلى جانب رؤية القيادة السياسية الجديدة، والتحولات في موازين القوى الإقليمية والدولية. وفي النهاية، فإنَّ الدبلوماسية محصلة تفاعلات داخلية وإقليمية ودولية، وبما يحافظ على دور متوازن يحفظ ويصوون مصالح الدولة العليا.