بلقاء بيرم التونسي كاتباً والشيخ زكريا أحمد ملحناً التقتْ عبقريتان. وحين نضيف لهاتين ثالثةً، أدائية لا تجارى وصوتاً مميزاً تمثل بصوت أم كلثوم، يكتمل مثلثٌ إبداعيٌّ ذو نكهة خاصة، ليقدم الثلاثة أعمالاً أخرجتْ أمَّ كلثوم، التي كان صيتُها راسخاً، عن سكة التحفظات الارستقراطية التي رسخها فيها رياض السنباطي ومحمد القصبچي، بالاشتراك مع أحمد رامي غالباً، وجعلاها تغني، دون أن تقصد، لأوساطٍ أكثر شعبية، سلسلة أغانٍ مثل "الاوله في الغرام" التي ورد فيها "حطيت على القلب ايدي وانا بودع وحيدي"، هذا دون أن نبخس أغانٍ أخرى حقَّها في قائمة المجد الثلاثي، مثل "هو صحيح الهوى غلّاب" و"الأمل" و"الآهات" وغيرها؛ لا يندرج هذا في باب المفاضلة، ولكنه يندرج في باب الاهتمام بالتنوع المرتكن إلى سند اجتماعي جديد مضاف، ومقدار ارتباط الذوق بالتراتبية الاجتماعية كما يرى.
على أنَّ المعجبين بأم كلثوم لم يكن لهم أن يصنفوا طبقياً. فلم يكن لهذا الجديد، الذي حشد لها جمهوراً أوسع ومختلفاً، أن يُبعد عنها القديم، حتى مع أن بعضاً قد زمّ شفتيه وقال مع نفسه اما كان لها أن تظل على "ما دام تحب بتنكر ليه" و"رق الحبيب" و"أراك عصيَّ الدمع؟
يومَها كان الشيوعيُّ، "البروليتاري" المتسكعُ في شوارعِ بغداد وأزقة البتاوين، قد ترك كليته تواً وعمل في معامل البلاستيك في حارات "عقد النصارى" متخلياً عن إمكانية توظيفه بموجب شهادته. طرقتْ هذه الأغاني سمعه ربما بالصدفة، يوم كان يبحث عن غرف رخيصة للإيجار، وأتاحت له أن يقلبها في ذهنه، ثم يسقط عليها معاييره الأيديولوجية، التي كانت، من باب المفارقة، متعالية مزدرية. كانت الاغاني تصدح قادمةً من عمقِ حاناتِ ساحة الطيران مختلطة بضجيج أبواق السيارات وصياح المارة وبصوت الباعة الذين افترشوا أرصفة المشاة. لم يكن هذا المتسكع المنتمي لليسار فقيراً، لكنه في عين الوقت لم يكن من الطبقة الارستقراطية، لكن حتى الفقراء يمكن لهم أن يتوفروا على أنماط تفكير تنتمي لغير وسطهم الاجتماعي. كان ثمة دائماً ألقُ الفخامةِ المُغري والجذاب نابضاً كحلم في العقل الباطن.
في هذه الحانات التاريخية، التي أدارتْ دون توقفٍ أسطواناتِ وأشرطةَ تسجيلٍ تحمل أغاني أم كلثوم على وجه الحصر، كانت صحون المزة المعدنية مُسمّرة من وسطها بمسمار 4 أنج إلى المناضد التي جلس حولها سكارى من كلّ حدب وصوب. كان ربما من البديهي أن لا يقوم أحدٌ بسرقة ما لا قيمة له، وخصوصاً إذا ما كان مثقوباً من وسطه، فدوافع السرقة محكومة بقيمة البضاعة، أكانت قيمة استعمالية أو تبادلية. ولكن أموراً تجري لدى السكارى فيما لا تفسير له، حتى لديهم حين يصحوا، إلا أن يكون الأمر محكوماً بما يزيّنه لهم السكر من أشكال المشاكسة والخروج عن المألوف. أو لربما خشي مالكو الحانات أن تستعمل الصحون أدوات قتال حين يحمى الوطيس. من يدري!
لكن أجساد السكارى المتصالحين مع بعضهم حتى ذلك الحين، ما فتئت تطوّح يميناً وشمالاً، وأغاني أم كلثوم تصّعدُ في الهواء وتختلط بدخان السكائر، وبعضٌ من السكارى يبكي، وبعضٌ يضحك بنشوة وبعضٌ آخر يعانقُ جاره، الذي تعرف عليه، على مائدة الخمر تواً، صائحاً على حين غرة "ولك داد اشتاقيتلك"!
لم تكن حانات ساحة الطيران هي الوحيدة التي امتازت عن الأخريات بالصحون المعدنية المُسمّرة، فقد كانت مسمرة إلى المناضد أيضاً صحون المزة في وشلِ حاناتٍ تبقّى منتثراً في صوب الكرخ عند انحدار تقويسة جسر الأحرار حتى دار الإذاعة. فليس للقادم من ساحة حافظ القاضي إلى منطقة الصالحية إلا أن يبلغ ذروة الجسر عبوراً على دجلة المتدفق، لكي ينحدر إلى الصالحية، ولكنه قبل أن ينحدر، سيكون بمقدوره أن يرى من علٍ شيئاً ملفتاً. كان ما يزال قائماً أيضاً ملهى ليالي الصفا بيافطته العريضة يواجه النهر. هنا غنت في الثلاثينيَّات فائزة أحمد بصوتها الكرستالي ألحاناً رائعة لرضا علي مثل "ميكفي دمع العين يا بويه" أو "خي لا تسد الباب، خي بوجه الاحباب"، ثم لنجدها بلوعة تقول في الأغنية "انظر لحالي وشوف، انظر لحالي وشوف"، ثم قبل أن تنتظر لهذا المتعنت أن ينظر لحالها و"يشوف"، تلملم أغراضها وتشد رحالها فتنتقل إلى مصر، أمِّ الدنيا، وتستقر فيها. مصر التي احتضنت مغتربين أغنوا تراثها الفني، مثل بيرم وآل الأطرش ووردة، لتغني فائزة هناك روائع لمحمد الموجي "انا البي اليك ميال" وأخريات لمحمد سلطان، زوجها لاحقاً.
ويعود بذاكرته إلى أيام آخر معرض فنيّ حضره نظمته مديرة التربية وجمعت فيها لوحات من عموم المحافظة. في تلك المدرسة التي وقعتْ عند منعطفِ النهر وضمّت لوحاتٍ لمئات من التلاميذ والطلاب والطالبات، سمع لأول مرة أم كلثوم تغني الأغنية الثانية لعبد الوهاب "انت الحب"، وطرِب لليونة اللحن الانسيابي في "وعمري مشكي من حبك مهما غرامك لوعني، لوعني.. لكن اغير ملي يحبك ويصون هواك أكثر مني"، فتزيح الأغنية هاجساً مثلته أغنية "انت عمري" التي وجد مقدمتها الموسيقية مزخرفة أكثر من اللازم، وراوده عقله الشكاك أن يكون عبد الوهاب ربما حاول بهذه المقدمة سرقة الأضواء من أم كلثوم وهي التي على هيبتها المغنية الماثلة على المسرح، أمام الجمهور وهو هنا الملحن. ربما كانت "انت عمري" انزياحاً ثانياً (إذا ارتكن إلى مصطلحات فوكو) عن سكة "الشعبية" التي هندسها ثنائي بيرم وزكريا أحمد إلى سكة "الشعبوية". هناك فضاء، كما فكر دائماً، ينهض تلقائياً بين كل عمل تجديدي وبين المتلقين، يحد من قبوله أول الأمر محدثاً ما يشبه الصدمة. لكنَّ أغنية "انت عمري" حققت شعبية غير مسبوقة، وتحولت في دقائق إلى حديث المقاهي والحانات والمحافل على طول الوطن العربي، متخطية هذه القاعدة. عبد الوهاب الذي كان دائماً أنيقاً نخبوياً معزولاً بقدر ما عن الشباب، قد أصبح بضربة واحدة مثار اهتمامهم.
أعاد بليغ حمدي العبقري الشاب لأم كلثوم توازنها حين قدم لها لحناً استثنائياً في أغنية "سيرة الحب"، فقد جمع فيه القبول والفخامة. وتبقى أغنية "انت الحب" عملاً من أعمال عبد الوهاب البارزة، كما اعتقد دائماً حين تذكر مروره الذي تكرر على حانات ساحة الطيران والأغاني الخالدة لا تزال تصدح فيها.