: آخر تحديث

صرخة في وجه الوطن

5
4
6

يخرج علينا في أيامنا هذه بعض الدعاة، وقد ارتدوا عباءة الوطنية وتدثروا بشعاراتها، ينادون بحب الوطن ويُغرِقون في وصف فضائله، حتى ليُخيَّل إلى السامع أنهم حُرّاس المعنى وحَمَلة الرسالة، وأنّهم أوصياء على ضمائر الناس ووجدانهم. غير أنّ المفارقة المؤلمة تكمن في أنّ كثيرين منهم لا يرون الوطن إلا صورةً باهتة، اسماً أجوف، أو شعاراً يُرفع عند الضرورة ثم يُطوى مع أول اختبار حقيقي. بالنسبة إلى لهم، الوطن ليس سوى كلمة تتردّد على الألسن في المناسبات والخطب، بينما يظلّ بعيداً عن القلب الذي ينبغي أن يكون موطنه الحقيقي.

لقد تحوّل الوطن عند فئة واسعة من الناس إلى رسمٍ على الورق، أو نقشٍ على جدار، لا يتجاوز أثره حدود اللسان. هو جسد بلا روح، صورة بلا حياة، لا يحرّك في النفوس حرارةً ولا يوقظ في الذاكرة شغفاً. ومع ذلك، ما يزال آخرون يعلّقون عليه آمالهم، ويتغنّون به كما لو أنّه خشبة النجاة في بحر متلاطم. يظنّون أنّه الكتف التي تسندهم، والسماء التي تظلّهم، واليد التي ترفع عنهم الضيم، وتُدخلهم ـ مجازاً ـ في جناتٍ من الطمأنينة والعدل والكرامة.

لكن، هل يكون الوطن كذلك دائماً؟ الحقيقة أنّ الوطن لا يُقاس بما يُقال فيه، بل بما يقدّمه لأبنائه. يكون جديراً بالحب حين يتحوّل إلى نبعٍ صافٍ من الحنان، رفيقاً بالإنسان والحيوان، حامياً لهما، حريصاً على حقوقهما، ملبيّاً لحاجاتهما. يكون وطناً حين يحنو، لا حين يقسو. أمّاً حين يفتح ذراعيه، لا حين يتحوّل إلى جلادٍ يتصيّد أخطاء أبنائه. فما معنى وطن يرمي أبناءه في غياهب المعتقلات، ويهدم بيوتهم، ويقطع أرزاقهم، ويُغلق الأبواب في وجوههم كلّما سعوا إلى إصلاح أو طلبوا حقّاً؟ أيّ وطنٍ هذا الذي تتحوّل فيه الشكوى إلى تهمة، والمعاناة إلى جرم يستحق العقاب؟

إنّ البلاد العربية في كثير من أقطارها لم تزل مسرحاً للألم والخذلان. سوريا اليوم مثال صارخ، لكنّها ليست وحدها. من العراق إلى اليمن، ومن السودان إلى ليبيا، الحكايات تتشابه وإن اختلفت التفاصيل. الجرح واحد، والوجع واحد: شبابٌ أنهكتهم الحاجة، وكسرهم الفقر، وأثقلت كواهلهم سطوة الحاكم. وبينما هم يغرقون في البحث عن لقمة عيش كريمة، يتصدّر المشهد مغرّدون متملّقون، يزيّنون القبح بألسنة ملساء، ويبرّرون للطغاة كلّ فعل، لأنّهم يقتاتون على فتات موائدهم.

والأدهى من ذلك أنّ بعض الصحافيين والمثقفين ـ الذين يُفترض فيهم أن يكونوا ضمير الأمة وصوت الحق ـ قد آثروا أن يرفعوا لواء الدفاع عن الأنظمة القمعية. يكتبون عنها بمداد التقديس، يلمّعون صورتها، يغضّون الطرف عن مشانقها وسجونها، عن دموع أمهات المعتقلين، عن صراخ الأطفال الجوعى. تراهم يصفون الوطن كما لو أنّه لا يُرى إلا من شرفات القصور، ولا يُفهم إلا بعيون المتسلّطين. ثم يطلّ علينا أحدهم، وقد امتلأت جيوبه بعطايا السلطة، ليصدح بصوت عالٍ: "هذا وطنك، عليك أن تدافع عنه!". ويشبّهه بالأم الرؤوم التي لا ينبغي أن تُعاتب مهما فعلت.

لكن أيّ أم هذه؟ الأم الحقيقية تحنو ولا تقسو، تغفر ولا تنتقم، تعطي بلا مقابل، وتسهر لتمنح أبناءها الأمان. الأم لا تتحوّل جلاداً، ولا تُسلم أبناءها للمهانة والضياع. فكيف نساوي بين حضن الأم الذي يضمّ، وبين وطنٍ يلفظ أبناءه؟ كيف نقبل أن يكون السجن بديلاً عن صدرها، والجوع بديلاً عن لبنها، والذلّ بديلاً عن حنانها؟

الوطن الذي يشبه الأم هو ذاك الذي يحتضن أبناءه في أوقات الشدّة قبل الرخاء، الذي يرى في كلّ فرد منهم قيمة لا يمكن الاستغناء عنها. الوطن الأمّ هو الذي يشارك أبناءه آلامهم، يشعر بهم، يقاسمهم اللقمة والفرح، يمنحهم فرصة الحلم والتقدّم. أمّا الوطن الذي يُدار بعقلية العصابة، حيث تُحتكر الخيرات لفئة محدودة، ويُترك الباقون للفتات، فليس إلا مقبرة للآمال وصورة مشوّهة عن معنى الانتماء.

أيّ وطن يستحق أن يُسمّى أماً وهو يوزّع خيراته على حفنة من المتسلّطين، ويترك أبناءه الحقيقيين يقتاتون من الفقر والخذلان؟ أيّ حضنٍ هذا الذي يدفع بأبنائه إلى المنافي والشتات، ليبحثوا عن كرامة مفقودة وعدالة غائبة؟ أليس الوطن الذي يطرد أبناءه أشد قسوة من الغربة؟

إنّ الفارق بين الأم والوطن يكمن في المعنى لا في الاسم. الأم تحبّ أبناءها بالفطرة، لا تحتاج إلى دستور أو قوانين لتذكّرها بواجبها. بينما الوطن، إذا لم يكن قائماً على العدل، إذا لم يضمن الكرامة والحرية والعيش الكريم، فإنّ اسمه يبقى ناقصاً، وظلّه منقوصاً. يصبح الوطن آنذاك قيداً يلتفّ حول أعناق أبنائه، بدل أن يكون صدراً يتّسع لهم.

قد يقول قائل: "لكن الوطن ثابت، والأم قد ترحل". والجواب أنّ الوطن بلا عدل ليس إلا جغرافيا جامدة، قطعة أرضٍ لا تختلف عن أي أرض أخرى. الأرض وحدها لا تكفي لتكون وطناً، كما أنّ البيت وحده لا يكفي ليكون بيتاً إن خلت جدرانه من الدفء. الوطن يُبنى بالحب، ويُحفظ بالعدل، ويُصان بالكرامة. وحين يغيب ذلك، يصبح الوطن عبئاً ثقيلاً، وغربةً داخلية تفوق قسوة المنافي.

لقد علّمنا التاريخ أنّ الأمم التي تعامل أبناءها كأعداء، لا تلبث أن تسقط من الداخل. لا يكفي أن تُشاد القصور وتُرفع الأعلام وتُكتب الخطب. إنّما الوطن في عيون أبنائه، في قلوبهم، في استعدادهم للتضحية من أجله. فإذا ما جُرّدوا من الكرامة، وأُثقلوا بالظلم، وانكسرت أرواحهم، فلن تبقى راية قادرة على أن تخفي العار.

إنّ الوطن، في أعمق معانيه، قد يكون شبيهاً بالأم، لكنّ الأمومة ليست كلمة تُقال، بل فعل يُعاش. فإذا غاب الفعل، بقي الاسم أجوف. ومن هنا، يظلّ السؤال مفتوحاً: أيّ وطنٍ هذا الذي يشبه الأم حقاً؟ أهو الذي نُدعى للدفاع عنه مهما جار وظلم، أم ذاك الذي نحتضنه بقلوبنا لأنه بادلنا الحب بالحب، والعطاء بالعطاء؟

قد يكبر الوطن، وقد تتسع حدوده، وقد تزداد موارده، لكنّه لن يرقى أبداً إلى أن يساوي حضن الأم، ذاك الحضن الذي لا يعرفُ الخيانة ولا المساومة، ولا يتحوّل إلى سلطة قاهرة. الأم تبقى أماً، أما الوطن، فإمّا أن يكون صدراً حانياً، أو يتحوّل إلى غربة داخلية، أشدّ وطأة من الغربة في أصقاع الدنيا.

تبقى الصرخة في وجه الوطن صرخة محبٍّ مخذول، وليست صرخة عاقٍّ جاحد. هي صرخة مَن حلم بوطن يشبه أمّه، فلم يجد سوى وطنٍ يقسو، ويجحد، ويخذل. صرخة تبحث عن معنى ضائع، لعلّها توقظ الضمير الغافي، وتذكّر بأنّ الوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالعدل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.