محمد سليمان العنقري
يصدر بشكل شبه يومي أو أسبوعي عدد كبير من التقارير من مؤسسات مالية أو منظمات اقتصادية دولية تتحدث عن تداعيات الرسوم الجمركية التي أعلنتها أمريكا على معظم دول العالم، واعتبرت سلاحاً في الحرب التجارية المشتعلة حاليا،ً حيث تراجع حجم التجارة الدولية بين أكبر الاقتصادات العالمية مع واشنطن، فآخر تقرير تحدث عن التجارة الصينية - الأمريكية أظهر تراجعاً بحوالي 11 بالمائة بين شهري يوليو وأغسطس الماضيين لتصل إلى 31 مليار تراجعاً من 35 مليار دولار في فترة شهرين فقط، بينما توقعت عدة منظمات عالمية معنية بالشأن الاقتصادي تراجع نمو الاقتصاد العالمي هذا العام عن التقديرات السابقة بنسب ضئيلة حالياً، لكنها تحذر من سلبيات أكبر العام القادم إذا لم تحل الخلافات التجارية بين واشنطن وأكبر شركائها والأهم فيهم الصين.
لكن بالمقابل لابد من قراءة وجهة النظر الأمريكية بمعزل عن صحتها من عدمها، فمن غير المعقول أن يغيب عن ذهنهم وهم أكبر مدارس الاقتصاد والإدارة والتجارة في العالم أنه ليس لحرب الرسوم أثر سلبي على الاقتصاد الأكبر في العالم، فأمريكا تعد سوقاً ضخماً وهدفاً لكل الشركات العالمية وتستحوذ على المركز الأول في التبادل التجاري مع أغلب دول العالم؛ لذلك لم تتخذ هذه القرارات دون أن تعي أن لها تأثيراً بالغاً سيرغم الآخرين مثل الاتحاد الأوروبي والصين والهند وغيرهم ممن تميل كفة الميزان التجاري لصالحهم أنهم سيتجهون لاتفاقيات جديدة تحقق لأمريكا مصالح وأهداف اقتصادية تبقيها متفوقة عليهم، وتحافظ من خلالها على مكانة الدولار كعملة احتياط وتجارة رئيسية عالمياً، وكذلك الحفاظ على مكانتها بالجاذبية الاستثمارية والتفوق السياسي والعسكري، وقد وقعت بالفعل عدة اتفاقيات مهمة مع أوروبا وبريطانيا والعديد من الدول، وهي في طريقها لتفاهم واسع النطاق مع الصين على قواعد جديدة في التجارة بين الدولتين.
قد لا يكون من الضروري إعادة التذكير ببعض المنافع التي تريد منها أمريكا معالجة بعض ملفاتها الشائكة مثل الدين السيادي وعجز الموازنة والميزان التجاري، إلا أن الأهم هو ماذا بعد كل هذا الصخب بل والغليان العالمي من فرض هذه الرسوم، فهناك بالتأكيد أهداف كبيرة تتمثل في إعادة رسم خارطة التجارة الدولية وكذلك اتجاهات الاستثمارات بحيث تتراجع مكانة الصين في كونها الأكثر جاذبية للاستثمار وكذلك تعد سيدة التجارة العالمية؛ مما يعني أن ما تقوم به أمريكا حالياً ليس إلا مرحلة من مراحل تحقيق هذا الهدف، فالرسوم ورقة تفاوضية ووحدها لا تكفي للوصول لأهداف واشنطن البعيدة، فقد تغلق أمريكا الملف وتتوصل لاتفاقيات مع كل المستهدفين من شركائها الكبار خلال هذا العام، لكن ذلك ليس نهاية المطاف في استراتيجية أمريكا الخارجية، فرغم اختلاف نهج الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين يتنافسان في قيادة أمريكا داخلياً إلا أن الأهداف الخارجية تعد شبه ثابتة وكلاهما متفق على أن الصين أكبر منافس لهم.
وفي هذه الحالة فإن ما يجب النظر له هو أن أمريكا لديها مراحل قادمة من العمل لكي تحقق مرادها من خلال إعادة بناء تحالفات على أسس جديدة في مناطق جغرافية أصبحت هي الأهم بالنسبة لها مثل الشرق الأوسط الكبير وكذلك الشرق الأدنى ودول أسيا الوسطى، فحتى تعاملها الحالي والمفاجئ مع الهند رغم العلاقة القوية بينهم من حيث فرض رسوم عالية على نيودلهي وذلك بسبب استمرار شرائها للنفط الروسي قد يكون في حقيقته لا علاقة له بهذا السبب، فدول عديدة تشتري النفط الروسي فأمريكا تريد أن تكون الهند منافساً حقيقي للصين صناعياً دون أن يكون بينهم أي نوع من الشراكة الواسعة على حساب أمريكا، وتحديداً من خلال بريكس التي يعتبرها البيت الأبيض خطراً وجودياً يجب إضعافهن فخروج دولة مثل الهند أحد مؤسسي بريكس من التعاون الفعلي مع الصين وروسيا يعني عملياً تراجعاً كبيراً لبريكس عالمياً، ورغم رد الهند القوي بأنها لا تبالي بهذه الرسوم الجديدة عليها واتجهت أكثر لتنويع شراكاتها الدولية خصوصاً مع الصين من خلال الحراك الأخير بين الدولتين، إلا أن هذا التحرك هو رسالة ضغط أيضاً لتعدل أمريكا علاقتها التجارية مع الهند بما يخدم مصالح الطرفين، لكن إلى الآن رد الرئيس ترامب يظهر استمراره بقراره، حيث قال إن بلاده خسرت الهند وروسيا لصالح الصين متمنياً لهم نجاحاً بالمستقبل وكأنها رسالة باطنها عكس ظاهرها تقول للدولتين لن تحققوا شيئاً بدون شراكة مع أمريكا.
مراحل قادمة تستعد لها واشنطن لتبقي مكانتها في العالم كما هي متفوقة بكافة المجالات، ولذلك التخطيط لها لا يأخذ تحذيرات الفيدرالي ومخاوف التضخم بعين الاعتبار كثيراً فالغايات بعيدة الأهداف وقد يكون التوجه القادم أكثر وضوحاً في العمل على تفكيك أو إضعاف بريكس، مع تحركات لتقطيع أوصال طريق الحرير المبادرة الصينية التي تعد حالياً الشبكة التجارية الضخمة عالمياً واستفادت منها الصين ودول عديدة، إضافة لعملها على التمركز في أفريقيا وتوقيع اتفاقيات عديدة مع دول غنية بالمعادن مما يضعف أيضاً تأثير الصين بهذا الملف حيث تعد المنتج الأكبر للمعادن النادرة عالمياً، ومن المعروف أن أهمية المعادن سترتفع كثيراً نظراً لدورها بصناعات حيوية في المستقبل.. فهل تنجح أمريكا بهذه الاستراتيجيات التي ستغير خارطة العالم اقتصادياً ومراكز القوى فيه وتجعلها تتقبل سلبيات خططها الحالية باعتبار أنها مؤقتة وتعد ثمناً زهيداً أمام المكاسب المستقبلية أم أن الأوان قد فات وأصبح من المستحيل تغيير التوجه لعالم متعدد الأقطاب؟.