: آخر تحديث

السفر.. رحلة خارج المكان وداخل الذات

4
6
4

سمر المقرن

السفر ليس مجرد انتقال من مدينة إلى أخرى أو تبديل مقعد في طائرة، بل هو فعل إنساني عميق يحمل في طياته معنى الاكتشاف. حين نغادر أماكننا المألوفة ونفتح أعيننا على عوالم جديدة، فإننا لا نكتشف الطرق والشوارع والمباني فحسب، بل نكتشف أنفسنا أيضاً.

كل محطة سفر هي صفحة بيضاء تكتب عليها الروح تجربتها. في شوارع مدينة لم نألفها، نتعلَّم الإصغاء لصوت الحياة المختلف؛ في وجوه الناس نتأمل تنوع البشر، وفي تفاصيلهم نرى انعكاس قصص لا تنتهي. هناك شيء سحري في السفر يجعلنا نعيد النظر في ما اعتدنا عليه، ويمنحنا شجاعة لنكون نسخة أصدق من ذواتنا.

القهوة التي نشربها يومياً قد تكون ذاتها، لكن في سفرٍ قصير نشعر أن نكهتها أعمق وأكثر حياة. كأن اختلاف المكان يضيف لمسة جديدة حتى على أبسط العادات. وربما هذا هو سر السفر: أنه لا يغير الأشياء من حولنا بقدر ما يغير نظرتنا إليها.

السفر أيضاً يعلّمنا قيمة اللحظة. نحن، في زحمة الروتين، نغفل أحياناً عن جمال التفاصيل الصغيرة. أما في السفر، فكل لحظة تصبح قابلة للحفظ: ابتسامة عابرة من غريب، نغمة موسيقى في شارع مزدحم، أو منظر غروب يلوِّن السماء بلحن خاص. هذه التفاصيل لا تُشترى، بل تُعاش.

وربما أجمل ما في السفر أنه يوقظ الطفل فينا. الضحك الذي يخرج بلا سبب، الحماسة لتجربة جديدة، الدهشة أمام شيء لم نره من قبل.. كلها لحظات تعيدنا إلى براءة البدايات. ولهذا نقول: السفر هو أجمل طريقة نضحك فيها مع أنفسنا، بعيداً عن ثقل المسؤوليات وصخب الأيام.

لكن السفر ليس هروباً من الحياة، بل هو عودة إليها بوعي أوسع. حين نرجع من رحلة قصيرة أو طويلة، نحمل معنا شعوراً متجدداً بأننا أكثر قدرة على الحب، على التسامح، وعلى الاستمتاع بالأشياء البسيطة. هو تدريب للروح على أن ترى الخير أينما كان، وتؤمن أن العالم رغم اتساعه يبقى بيتاً واحداً للبشر.

باختصار، السفر تجربة ثرية تعلّمنا أن الحدود ليست سوى خطوط على الخرائط، أما الروح فليس لها حدود.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد