منذ مطلع القرن العشرين تحولت قضيتان رئيسيتان إلى مصدرين دائمين للحروب والاقتتال والدمار في الشرق الأوسط. لم تقتصر النتائج على شعب واحد أو دولة بعينها، بل شملت المنطقة بأسرها: القضية الكردية والقضية الفلسطينية. ما يجمع بينهما أكثر مما يفرقهما؛ إذ كلتاهما تُعبر عن حق شعب يعيش على أرضه التاريخية دون أن يُعترف له بدولته المستقلة، ويعاني من التشتت، والانقسام، ووطأة الاحتلال، أو السيطرة من أقوام أخرى... فالكرد الذين يمتد وطنهم التاريخي من جبال زاغروس إلى سهول الموصل وحلب، وجدوا أنفسهم بعد اتفاقية «سايكس - بيكو» عام 1916 ضحية للتقاسم الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا، حيث مُزقت كردستان بين 4 دول هي: تركيا وإيران والعراق وسوريا، ورغم أن «معاهدة سيفر» عام 1920 منحت الأمل لولادة كيان كردي مستقل، فإن القوى المنتصرة سرعان ما تراجعت، فطُويت صفحة «سيفر» وجاءت «معاهدة لوزان» عام 1923 لتثبّت الحدود وتلغي أي التزام بالحقوق القومية للكرد... ومنذ ذلك الحين دخلت المنطقة في دوامة من الحروب والانتفاضات والقمع الدموي.
أمَّا فلسطين، فقد كانت ضحية «وعد بلفور» عام 1917، وما تلاه من الانتداب البريطاني الذي مهد لقيام دولة إسرائيل عام 1948، حين جرى اقتلاع مئات آلاف الفلسطينيين من أرضهم وتشريدهم في المنافي، وتحولت قضيتهم إلى صراع مفتوح لم ينطفئ رغم عشرات القرارات الأممية. وإذا كان الفلسطينيون قد حظوا باعتراف دولي واسع بحقهم في تقرير المصير، فإن الكرد ظلوا حتى اليوم محرومين من أي اعتراف مماثل، على الرغم من تكرار الثورات والانتفاضات في العراق وتركيا وإيران وسوريا.
يلتقي الشعبان في جوهر واحد: الحرمان من الوطن المستقل، والتعرض لسياسات التهجير والتذويب الثقافي والاضطهاد، كما أن التجزئة السياسية والانقسام الداخلي لعبا دوراً في إضعاف القضيتين. الفلسطينيون انقسموا بين تيارات متصارعة، مثل حركتَي «فتح» و«حماس»... وفصائل أخرى، فيما عاش الكرد انقسامات بين أحزاب وحركات في الأجزاء الأربعة من وطنهم. وزاد الأمر تعقيداً أن الحركتين التحرريتين كانتا عرضة لضغوط إقليمية ودولية دفعت إلى انشقاقات عمودية وأفقية داخل بنيتهما؛ مما أضعف من قدرتهما على تطوير مشروع سياسي متماسك يقود إلى الهدف النهائي، وقد استغلت القوى المحيطة هذه الانقسامات لتعميق الأزمات وإطالة عمر الصراع.
القيادة التاريخية للشعبين تُجسد معالم هذا التشابه والاختلاف... ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، أصبح رمزاً عالمياً للقضية الفلسطينية؛ فقد تنقل بين المحافل الدولية، واستطاع أن يجعل من فلسطين عنواناً حاضراً في الإعلام والسياسة الدولية، رغم كل ما رافق مسيرته من إخفاقات وانقسامات. والملا مصطفى بارزاني، قائد الثورة الكردية في العراق، غدا رمزاً قومياً للكرد جميعاً؛ فقد قاد الكفاح المسلح لعقود من جبال كردستان، وسعى إلى أن يرفع صوت شعبه في المحافل الدولية. لكن عرفات حظي بمظلة اعتراف عربي ودولي، فيما ظل بارزاني يقاتل ضمن توازنات معقدة بين بغداد وطهران وأنقرة وواشنطن وموسكو.
ومع رحيل الزعيمين التاريخيين، برزت قيادات جديدة واصلت المسيرة وأسست لمرحلة مختلفة... ففي كردستان، تمكن مسعود بارزاني وجلال طالباني من تحويل النضال المسلح إلى مشروع سياسي مؤسساتي، فكانا المؤسِّسَين لإقليم كردستان العراق بوصفه أول كيان كردي معترف به ضمن النظام الفيدرالي العراقي. هذا الكيان أرسى تجربة ديمقراطية وبرلمانية متقدمة قياساً بالبيئة الإقليمية، وأصبح مرجعاً قومياً للكرد في كل الأجزاء. وفي فلسطين، ورثت قيادات منظمة التحرير السلطة الرسمية بعد «اتفاق أوسلو»، فكانت السلطة الوطنية الفلسطينية أول كيان رسمي لشعب فلسطين على أرضه، رغم محدوديته، ورغم الصعوبات التي فرضها الاحتلال، ورغم الانقسام الداخلي.
محاولات التعاون بين الحركتين التحرريتين لم تبلغ مستوى الشراكة، وإن تقاطعت في بعض اللحظات، فالقضيتان كانتا محكومتين بتوازنات دولية مختلفة: فلسطين في صميم الصراع العربي - الإسرائيلي، وكردستان في قلب النزاعات الإقليمية بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، ومع ذلك، فإن الروابط الإنسانية والسياسية لم تنقطع؛ إذ التقى قادة الكرد والفلسطينيين في أكثر من مناسبة، وأكدوا وحدة الهدف في الحرية والاستقلال، وإن حالت الجغرافيا والسياسات دون بناء جبهة مشتركة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على «سايكس - بيكو» و«بلفور»، ما زال الشعبان يعيشان تحت نير الاحتلال، أو التبعية القسرية، لكن الفرق أن القضية الفلسطينية، رغم تعثرها، لا تزال تحظى باعتراف عالمي وكيان سياسي يتمثل في السلطة الفلسطينية، بينما يواصل الكرد نضالهم في 4 أقاليم متباعدة، وقد نجحوا في بناء إقليم فيدرالي في العراق يُعدّ التجربة الأبرز، إلى جانب الإدارة الذاتية في شمال سوريا، لكن دون اعتراف دولي واضح.
في النهاية، فإن ما يجمع القضيتين أكبر مما يفرقهما: هدف الحرية وتقرير المصير، ومأساة التشريد والقتل، وأمل الأجيال الجديدة في بناء الدولتين المستقلتين. وإذا كانت أوجه الاختلاف قد فرضتها الجغرافيا والسياسات الدولية، فإن وحدة الهدف تبقى أقوى وأبقى، وتؤكد أن الشعبين؛ الكردي والفلسطيني، يمثلان وجهين لمأساة واحدة في الشرق الأوسط، ووجهين أيضاً لأمل متجدد في مستقبل مختلف.