بعد نشر مقالي السَّابق، حول أهميَّة تأسيس أرشيف وطنيٍّ للصحف السعوديَّة، وردتني تساؤلات عديدة تتعلَّق بالجدوى الاقتصاديَّة والمعنويَّة لمشروع بهذا الحجم، والجهة الأنسب لتبنِّيه، وأمثلة لتجارب دوليَّة يمكن الاستفادة منها، إضافةً إلى ما قد يُقدِّمه من دعم للمؤسَّسات الإعلاميَّة الورقيَّة، ومدى ارتباطه برُؤية 2030. أوجز فيما يلي الإجابات على تلك التساؤلات:
أوَّلًا: الجدوى الاقتصاديَّة والمعنويَّة
يرى البعضُ أنَّ المشروع مُكلِّف، ولا يُحقِّق عائدًا مباشرًا، لكنَّ التجارب الدوليَّة تؤكِّد أنَّه استثمار طويل الأمد، فالأرشيف الرقمي يمكن أنْ يُوفِّر اشتراكات مدفوعة للباحثِينَ، والجامعاتِ، والمكتباتِ، والجهاتِ الحكوميَّة، ويصبح قاعدة بيانات تخدم قطاعات النشر والبحث، وصناعة وإثراء المحتوى العربي. غير أنَّ القيمة الأعمق التي لا تُقدَّر بثمن، هي حفظ ذاكرة المجتمع السعوديِّ، وتوثيق مسيرته وتحوُّلاته، فالصحافة ليست مجرَّد أخبار يوميَّة، بل سجل حي لتاريخ الوطن.
إنَّ غياب الأرشيف يعني أنَّ إفلاس، أو إغلاق المزيد من صحفنا الكُبْرى؛ سوف يؤدِّي إلى اختفاء عقود من التاريخ الموثَّق، وهو ليس خسارة إعلاميَّة فحسب، بل حرمان للوطن من مرجع تاريخيٍّ ومعرفيٍّ لا يُعوَّض.
ثانيًا: العائد للمؤسسات الصحفيَّة
يمكن للمشروع أنْ يُشكِّل طوق نجاة للصحف الورقيَّة المتعثِّرة، بل وربما عودة الحياة لتلك التي غابت. فإتاحة أرشيفها عبر منصَّة وطنيَّة متطوِّرة، هو خطوة أساسيَّة تحفزها للتحوُّل الرقمي، وتمنحها دخلًا إضافيًّا وتعيد لمحتواها قيمة جديدة في الفضاء الرقميِّ، بدلًا من بقائه حبيس المستودعات الورقيَّة المتآكلة.
ثالثًا: الجهات المعنيَّة
يمكن أنْ يُقام المشروع تحت إشراف دارة الملك عبدالعزيز؛ لخبرتها في حفظ الوثائق الوطنيَّة، وبشراكة مع المركز الوطنيِّ للوثائق والمحفوظات، وهيئة المكتبات، ووزارة الإعلام. هذا التنسيق يضمن معايير مهنيَّة عالية للحفظ والاسترجاع، ويمنح المشروع بُعدًا مؤسَّسيًّا مُستدامًا.
رابعًا: تجارب دوليَّة ملهمة
التجربة البريطانيَّة تقدِّم نموذجًا رائدًا؛ ففي نوفمبر 2011 أطلقت المكتبة البريطانيَّة، بالتعاون مع شركة Findmypast، مشروع «أرشيف الصحف البريطانيَّة» British Newspaper Archive، الذي أتمَّ رقمنة ملايين النسخ من الصحف المحفوظة منذ القرن التاسع عشر. هذا الأرشيف أصبح مرجعًا عالميًّا للباحثين والمهتمِّين بالتاريخ الاجتماعيِّ والسياسيِّ والإعلاميِّ، ويُدار بنظام اشتراكات يحقِّق عوائد اقتصاديَّة ومعنويَّة. وتملك المكتبة ترخيصًا قانونيًّا يعود إلى 1869، يُلزم الصحف بتسليم الأرشيف نسخة من كل إصدار لها. وطبعًا هناك مكتبة الكونجرس الأمريكيَّة التي تمثِّل مرجعًا عالميًّا في أرشفة الصحافة، إذ تحتفظ بآلاف النسخ الورقيَّة والرقميَّة، وتتيحها للباحثين ضمن منظومة متكاملة للحفظ والاسترجاع.
وفي فرنسا؛ دشَّنت المكتبة الوطنيَّة منصَّة Gallica التي تُوفِّر أرشيفًا رقميًّا هائلًا للصحف والكتب.
أمَّا الكويت، فقد أطلقت مشروع ذاكرة الكويت، الذي جمع أرشيف الصحف المحليَّة، وأتاحه للباحثين والإعلاميِّين بسهولة. هذه النماذج تؤكِّد أنَّ الأرشفة الرقميَّة ممارسة مؤسسيَّة راسخة، وليست ترفًا ثقافيًّا كما يتصوَّر البعض.
ختامًا، إنَّ تأسيس أرشيف وطني للصحافة، يتقاطع مع محاور رُؤية 2030: (مجتمع حيوي) عبر صون الهويَّة الوطنيَّة، (اقتصاد مزدهر) بدعم صناعة المحتوى، ووطن طموح (بتعزيز التحوُّل الرقمي)، هو ليس مجرد مشروع لحفظ الماضي، بل استثمار في الحاضر والمستقبل، يضمن أنْ تبقى ذاكرة الوطن حيةً ومتاحةً للأجيال القادمة.
الأرشيف الوطني للصحافة السعودية (2)
مواضيع ذات صلة