: آخر تحديث

من مكة إلى كوالالمبور... الدين كقوة للسلام!

5
5
6

انعقدت في العاصمة الماليزية كوالالمبور أواخر أغسطس (آب) الماضي، «القمة الدولية للقيادات الدينية» في نسختها الثانية، بتنظيم مشترك بين الحكومة الماليزية و«رابطة العالم الإسلامي» وبمشاركة نحو 400 قائد ديني وشخصية من 54 دولة.

«القمة» مثَّلت علامة دالّة على دور «الرابطة» بوصفها مؤسسة تجاوزت العمل التقليدي الخاص برعاية شؤون المسلمين وحسب، لتتحول إلى فاعل دولي نشط، يفتح أبوابه أمام مختلف القيادات الروحية والفكرية المؤمنة بالسلام، من أجل صياغة برامج تعزز التعايش ومكافحة النزاعات.

في كلمة الافتتاح، شدد رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، على أن مأساة غزة كشفت عن «فقدان عميق لالتزام المجتمع الدولي بالعدالة والإنسانية»، محذراً من أطروحات «صراع الحضارات»، وداعياً إلى استعادة رسالة الأديان في بناء الرحمة والتعايش. أما الأمين العام لـ«رابطة العالم الإسلامي» الشيخ محمد العيسى، فقد وصف القمة بأنها تنعقد في «لحظة استثنائية من التاريخ الحديث»، مؤكداً أن السلام لم يعد خياراً بل «ضرورة لبقاء البشرية وصون مصداقية ميثاق الأمم المتحدة».

البيان الختامي الصادر عن «القمة» أدان بشدة الحرب والمجاعة في غزة، ودعا إلى تحرك عاجل يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إطار حل الدولتين، مع دعم المبادرة الأممية التي رعَتها السعودية وفرنسا في «الأمم المتحدة» بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينية. وأكد القادة الدينيون التزامهم بـ«تعبئة تأثيرهم الروحي والمجتمعي لحشد الدعم لهذه الوثيقة»، في خطوة عكست إدراكاً لأهمية الجمع بين الدبلوماسية الدينية والدبلوماسية الرسمية في مواجهة النزاعات، واستخدام النفوذ الروحي لهذه القيادات في الخير، ومواجهة نزعة البطش والقتل والتهجير.

من الأمور المهمة التي صاحبت «القمة» إعلان الدكتور العيسى مبادرتين بارزتين: تعزيز الدور الروحي والأخلاقي للقادة الدينيين حول العالم، وحماية الأقليات في المجتمعات المتعددة الأديان والثقافات، بما يجعل العمل الديني مرتبطاً بقضايا المواطنة والعدالة. وهو في ذلك يتكامل مع جهود سبق أن قامت بها «رابطة العالم الإسلامي» في ندواتها وحواراتها مع قيادات سياسية وشخصيات أكاديمية وزعامات دينية في الولايات المتحدة وأوروبا، كان الأساس فيها رفض مبدأ صدام الثقافات والأديان، وأن الواجب العمل على جعل التعدد الثقافي عنصر قوة في المجتمعات، مع أهمية احترام القانون، وأن تكون «المواطنة» هي الأساس في الدولة الحديثة، دون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين.

إلى جانب «القمة الدولية الثانية للقيادات الدينية»، شهدت كوالالمبور اجتماع مجلس علماء «آسيان» في نسخته الثالثة، بالتعاون مع «الرابطة». وقد مثّل اللقاء منصة لتعزيز خطاب الاعتدال في واحدة من أكثر مناطق العالم تنوعاً دينياً وثقافياً وعرقياً. وتكمن أهمية هذا الاجتماع في أنه يوضح اهتمام «الرابطة» بمساعدة الخطابات المحلية أو حتى تلك المعنية بدول أو مناطق معينة. حيث يواجه علماء «آسيان» تحديات التطرف والعنف الديني اللذين تروّج لهما مجموعات أصولية متشددة. ولذا جاء اجتماع الشيخ محمد العيسى معهم، بهدف العمل المشترك من أجل صياغة خطاب إصلاحي متوازن، يعزز قيم الوسطية، ويحاصر محاولات استغلال الدين في التحريض والكراهية. إدراكاً من «الرابطة» للواجب الديني والأخلاقي من جهة، ولكي لا تكون الجهود منصبّة على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فقط، بل أيضاً على دول «آسيان» التي يغفل عنها كثير من الفاعلين الدوليين، رغم ثقلها البشري والثقافي.

كل ذلك، يعد جهداً تراكمياً يروم بناء مرجعيات فكرية ودينية تؤسس لخطاب عقلاني، بصير، طويل الأمد، في مواجهة الطائفية والإسلاموفوبيا وسرديات العنف والكراهية. ويبرز هنا ما أنجزته «رابطة العالم الإسلامي» في وثيقتين تأسيسيتين: «وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عام 2019، التي أكدت التعايش الإنساني والتعددية وحقوق الإنسان، و«وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» التي أُعلن عنها عام 2022، حيث وضعت إطاراً شرعياً وقانونياً وأخلاقياً لإدارة التباين المذهبي في إطار التعاون والتكامل. وقد أعاد البيان الختامي لـ«القمة» التذكير بهاتين الوثيقتين، بوصفهما مرجعيتين تقدمان رؤية معرفية وأخلاقية للتعاون بين البشر، وتؤكدان أن التنوع مصدر قوة وليس سبباً للنزاع.

الحضور المتنوع في «القمة الدولية للقيادات الدينية» يعكس نجاح «الرابطة» في أن تحشد القيادات المعتدلة نحو أهدافٍ محددة. هذا الانفتاح يمنحها موقعاً مؤهلاً لممارسة الدبلوماسية الدينية بفاعلية، والتي يمكن أن تسد فراغاً ناتجاً عن التوترات الحاصلة في مناطق مختلفة من العالم، وتفتح مسارات جديدة للتسويات. فالقادة الروحيون يتمتعون بشرعية أخلاقية تصل إلى قواعد شعبية واسعة، وهو ما يجعل صوتهم قادراً على التأثير القيمي على صناع القرار، وتوفير بيئة حاضنة للسلام.

هذه الجهود المهمة ستكون أكثر قوة في حال تعاونت معها ودعمتها المؤسساتُ الدولية المختلفة، من أجل أن يكون الدين رافعةً للخير والسلام، مما سيسهم في ترجمة هذه المبادرات إلى برامج ملموسة: وساطات فعلية في مناطق النزاع، ومشاريع تعليمية تعزز ثقافة التسامح، وشراكات مع «الأمم المتحدة» ومنظمات المجتمع المدني.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد