: آخر تحديث

صوت "الأنا" المزعج

0
0
0

من سوء حظ الإنسان أنه لم يُخلق زنبقاً. فلو كان كذلك، لما تورط في هذه المهزلة الكونية التي نسميها "الإزدواجية". نعم، نحن الكائنات التي ابتُليت بالعقل، نجد أنفسنا دائماً بين شيئين: بين ما نحن عليه وما نظن أنه يجب أن نكونه، بين "أنا" الواعي و"أنا" المشتت بين صور الإنستغرام وتحليلات كارل يونغ.

الإنسان، هذا الكائن المأسور في منتصف الطريق بين جوهره وغايته، يلوك الزمن كمن يلوك لبانة فقدت طعمها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما جلس بارمنيدس تحت شجرة زيتون وقرر أن "الوجود واحد" — ونحن منذ ذلك الحين نحاول أن نثبت له أنه مخطئ.

لكن مهلاً، لماذا لا نكون مثلاً زهوراً؟ على الأقل الزهرة لا تقلق بشأن الغد، ولا تراجع بريدها الإلكتروني قبل النوم، ولا تدخل في نوبة قلق وجودي لأنَّ صديقاً لم يُعجب بصورتها الأخيرة! كيركجارد، الفيلسوف الدنماركي ذو المزاج الميلانكولي، فهم المسألة جيداً، وكتب ذات مرة في نشوة غريبة: "دعونا نتعلم من الزنبق... الزنبق لا يقول ’أنا‘". وهذا وحده كافٍ ليجعلنا نشعر بالنقص أمام نبتة لا عقل لها ولا طموحات، لكنها أكثر انسجاماً مع الكون منّا.

الرغبة، في رأي كيركجارد، اختراع شيطاني ابتدعه اليأس كي يحافظ على مكانته بين البشر. الزهرة لا ترغب، الزهرة تزهر. ببساطة. أما نحن، فنريد أن نكون سعداء، مبدعين، ناجحين، محاطين بالإعجابات، وأن ننقذ الكوكب في عطلة نهاية الأسبوع. قال نيتشه ذات مرة: "كل رغبة هي قيد"، ونحن بلا شك مقيّدون إلى درجة أن الزنابق تضحك علينا في سرّها.

في الحقيقة، لو توقفنا عن قول "أنا" في هذه الضوضاء الوجودية، ربما وجدنا السلام. لكننا نعيش في زمن يجعل من الصمت تهديداً أمنياً، ومن السكوت عن الذات جريمة ضد السيرة الذاتية. وحتى حين نحاول أن نصمت، نضع صوراً لذلك على "ستوري" الإنستغرام مصحوبة بهاشتاغ: #تأملات_عميقة.

ما يدعونا إليه كيركجارد ليس الهروب إلى كهف ولا اعتناق الزهد الرقمي، بل ببساطة أن نصغي للحياة بصمت، أن نشارك في الوجود دون أن نحاول تصحيحه. ألا نسأل الزهرة عن سبب تفتحها، ولا الطير عن موعد هجرته. أن نحيا كمن يقول: "كفى"، مثلما كتب ألبير كامو، "أن يوجد الإنسان فقط، هو فضيحة كافية بحد ذاتها".

جيل دولوز تساءل ذات يوم: "ما الذي يمكن أن يفعله الجسد؟"، سؤال يبدو كمزحة غليظة على مسامعنا المثقلة بالمسؤوليات والبطاقات البنكية المنهكة. لكن ربما في هذا السؤال يكمن الخلاص: أن نكتشف ماذا يمكن لأجسادنا أن تفعل بعيداً عن لغة المواعيد والتقويمات والأهداف. أن نعيش اليوم لأنه "اليوم"، وليس لأنه الجمعة أو نهاية الشهر.

الزنبق لا يطرح أسئلة، لا ينظر إلى الأعلى ويتساءل: "هل أنا كافٍ؟"، بل يزهر حتى في التربة الفقيرة، في الريح، في الغبار، لأنه لا يعرف معنى الفشل أو المقارنة. كتب كيركجارد: "انظر إلى العشب في الحقل، كما هو اليوم". وهو دعوة لأن نكون "اليوم"، لا كفكرة مجردة، بل ككائن حي يتنفس الحياة ولا يضطر لتفسيرها.

إن الفرح ليس شعوراً، بل موقف وجودي، حالة من الامتزاج اللحظي مع اهتزاز العالم. أن تكون فرِحاً، يعني أن تكون الآن، تماماً، بلا شروط، بلا تفسيرات. وهذا ما تفعله الزهرة.

وبالتالي، لعلّ الحل في كل هذا الهوس المعرفي والقلق الوجودي ليس أن نفهم الحياة، بل أن نكفّ عن التشويش على إيقاعها. ألا نحاول إصلاح الذات كما لو كانت مشروعاً هندسياً معيباً. أن نكتفي — ويا لها من شجاعة! — بأن نكون مثل الزنبق: صامتين، مزهرين، متصالحين مع أن "الوجود... يكفي".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.