من أجمل النكت الكاريكاتورية التي كانت منشورة في إحدى المجلات العربية وتوضح طابورًا طويلًا جدًا من الشباب أمام السفارة الأميركية في إحدى البلاد العربية للحصول على تأشيرة دخول، وكان بعض الشباب الواقف في الطابور يحمل لافتات مكتوب عليها: "تسقط أميركا"، وهذا يعكس علاقة الحب والكراهية بين كثير من شعوب العالم وبين أميركا، فتجد مثلًا شيخًا محترمًا أو يساريًا محترمًا (برضه) يهاجم أميركا من خلال الفيسبوك الأميركي ومن خلال اليوتيوب الأميركي.
القوة الناعمة الأميركية لا يمكن الاستغناء عنها، الممثلة في تكنولوجيا المعلومات والجامعات العريقة ومراكز الأبحاث المتطورة جدًا، والمستشفيات التي يحجّ إليها كل مرضى العالم الأثرياء، وكذلك برامج التلفزيون وأفلام هوليوود التي شكّلت ضمير وعقل كثير من الناس في العالم، وأنا منهم. ثم حديثًا، جاءتنا من أميركا برامج الذكاء الاصطناعي.
فمن منا يستطيع اليوم الاستغناء عن الفيسبوك أو الواتساب أو غوغل أو إنستغرام أو برامج مايكروسوفت أو البرامج التي تقوم بتشغيل كل الكومبيوترات وتليفونات الموبايل حول العالم؟ والقائمة طويلة جدًا.
وأميركا لديها قوى ناعمة أخرى تتمثل في أنَّ الدولار هو عملة التعامل الرئيسية حول العالم، وكذلك أميركا لديها أكبر بورصة في العالم، وإذا اهتزت بورصة نيويورك رقصت معها كل بورصات العالم!
وأحيانًا تقوم شركة في الهند بشراء بضاعة من البرازيل، فلا بد أن تمر عملية الشراء عن طريق بنك في نيويورك بأميركا لأنَّ التعامل تم بالدولار (بالرغم من أن البرازيل والهند أعضاء مؤسسون في مجموعة البريكس).
وبجانب القوة الناعمة، فأميركا أيضًا القوة المسلحة الرهيبة، فلديها أساطيل وغواصات نووية وقواعد عسكرية حول العالم (اليابان وأوروبا والشرق الأوسط وكوبا)، وتستطيع التدخل عسكريًا في أي مكان حول العالم في خلال أيام أو ساعات أحيانًا، ولديها أسلحة نووية تستطيع تدمير الكرة الأرضية عدة مرات.
ولديها تفوق واضح في غزو الفضاء، ناهيك عن آلاف أقمار التجسس في الفضاء الخارجي التي تحيط بالكرة الأرضية.
ونصف أسطول الطيران المدني والتجاري حول العالم هو من صناعة شركة بوينغ الأميركية، ونسبة ضخمة من تسليح جيوش العالم هو صناعة أميركية.
أميركا أيضًا من أكبر منتجي البترول في العالم.
الجواب بالطبع هو لا: العالم لا يستطيع الاستغناء عن أميركا، وفي نفس الوقت أميركا لا تستطيع الاستغناء عن العالم.
فأميركا تستورد معظم احتياجاتها الاستهلاكية (باستثناء الطعام والسلاح) من كل بلاد العالم، وخاصة من بلاد شرق آسيا والهند وكندا والمكسيك، وكذلك تستورد العديد من المواد الأولوية من حول العالم.
لذلك فإنَّه من العبث قول البعض خارج أميركا: "نحن لا نحتاج إلى أميركا"، وفي نفس الوقت من العبث ارتفاع نبرة التكبر والاستعلاء من الإدارة الأميركية على باقي دول العالم، حتى أقرب الحلفاء.
وشعار "أميركا أولًا" هو شعار عبثي لأنه مفروغ منه، ولكنه يدغدغ مشاعر البسطاء في أميركا، مثله مثل شعار "مصر أم الدنيا" أو "شعب الله المختار" أو "ألمانيا فوق الجميع".
كل شعب وكل حكومة مفروض أن تعمل لمصلحة بلدها أولًا، فإذا كانت "أميركا أولًا" فمن المفروض أن تكون "كندا أولًا" و"الصين أولًا" و"بوركينا فاسو أولًا"!
لذلك فإن الحرب التجارية الدائرة حاليًا والتي بدأها ترامب هي حرب عبثية (مثلها مثل حرب أوكرانيا)، وسوف يكون الخاسر الأول فيها هو المواطن الأميركي والمواطن الصيني والمواطن الكندي وباقي غلابة العالم. وقد بدأنا نرى انهيار البورصات حول العالم، وفي مقدمتها البورصة الأميركية التي خسرت ما يقارب مبلغ عشرة تريليون دولار منذ تولي الرئيس ترامب رئاسة أميركا من ثلاثة أشهر، وهو رقم قياسي بكل المقاييس.
وهناك خسائر مماثلة في كل بورصات العالم تقريبًا.
لذلك فإني أعتقد أن الرئيس دونالد ترامب قد تسرع بالبدء في هذه الحرب، وكان من المفروض أن يبدأ بالتفاوض المباشر مع البلاد التي تعاني أميركا من العجز التجاري معها. وترامب محق تمامًا في محاولته حل مشكلة العجز التجاري المزمنة منذ نصف قرن من الزمان، وكذلك محاولته حل مشكلة الديون الأميركية والعجز في ميزانية الحكومة الفيدرالية، وهذه مشاكل مزمنة متراكمة منذ نصف قرن ولا يمكن حلها فجأة خلال أيام بقرار رئاسي.
وأعتقد أن ترامب ومن حوله لديهم من الفهم لما يجري في السوق من خلل وانهيار وترقب، لأن أصحاب الأموال حول العالم اليوم في حالة جمود في انتظار قرار رئاسي غدًا أو بعد غد من ترامب، وهذا لا يليق برئيس أميركا، إلا إذا كان يتعمد ذلك لكي يحصل على أقصى ما يستطيع، ولكنه عليه أن يدرك أيضًا أن هناك ملايين حول العالم يتأثرون بكل توقيع يوقعه أمام كاميرات التلفزيون.
وما يعجبني في الرئيس ترامب أنه ليس عنيدًا مثل أيّ دكتاتور، ولكنه براجماتي مثل معظم رجال الأعمال ويتراجع بسهولة عن قرار لو ثبت عدم صحته أو لو ثبت أنه سابق لأوانه، ويؤمن أيضًا بالمثل المصري: "اللي تغلب به... إلعب به".
العالم أصبح قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا الحديثة، وما يحدث اليوم في أميركا أو الصين أو روسيا أو السعودية من الممكن أن يؤثر على باقي العالم، لذلك لا بد، أردنا أم أبينا، أن تتعامل كل الدول مع بعضها البعض بطريقة "اهرش لي ظهري... وأنا أهرش لك ظهرك"!