يفتخر الإيرانيون بمهاراتهم التفاوضية، ويتندرون بقصة السائح البريطاني الذي وقف ذات يوم أمام متجر للتحف الفارسية، وقد لفت نظره مشهد كلب مربوط عند باب المتجر، وأمامه قطعة لحم موضوعة فوق صحن قديم اتسم بزخرفته الجميلة.
أدرك السائح أنَّ للصحن قيمة لا يعرفها صاحب المتجر، وفكّر في تقديم عرض لشراء الكلب، بحيث تندرج قطعة اللحم والإناء ضمن الصفقة، اعتمادًا على جهل البائع بقيمة سلعته.
وهكذا أبدى السائح اهتمامه بالكلب، وبدأ يساوم البائع الذي أظهر بدوره تمسكًا بالكلب. ومع ذلك، تمكن الاثنان من الوصول إلى اتفاق.
وحين همّ السائح بفك رباط الكلب، التفت نحو البائع، مشيرًا إلى الصحن وقطعة اللحم، وقال:
ــ أظن، سيدي، أنك ستسمح للكلب بإكمال طعامه في البيت، وتدعني آخذ اللحم والصحن أيضًا.
فأجابه البائع فورًا:
ــ نعم، يمكنني تعليب اللحم لك، سيدي، لتأخذه معك.
قال السائح متعجبًا:
ــ ولكنك وضعت الصحن لإطعام الكلب، مما يدل على قلة أهميته!
ردَّ البائع مبتسمًا:
ــ على العكس، سيدي. لقد وضعت الصحن خصيصًا لجذب انتباه الزبائن أمثالك وربما بيعه. أما الكلب، فلا يساوي شيئًا مقارنة به!
وفي هذا السياق، أدارت إيران مسيرتها التفاوضية مع الغرب، التي اتسمت بالصبر الاستراتيجي والاستثنائي على مدى اكثر من عقدين من الزمن. وقد تجنبت إيران طيلة هذه الفترة، الدخول في اتفاقات سريعة أو تنازلات كبرى رغم العقوبات الشديدة التي وقعت عليها.
يعرف الإيراني بقدرته على تحمل الصبر الطويل، ويعرف كذلك أنه يربح المنازلة مع الخصم في أغلب الأحوال، حين ينجح في سحبه إلى التفاوض معه، لأن سلاحه الكبير في المنازلة سيكون (الزمن) "والزمن الفارسي" تحديداً!
سياسة الترقب والانقضاض الإيرانية عبر التاريخ تظهر من خلال واقعة بسط الفرس لنفوذهم على اليمن في القرن السادس الميلادي. إذ أدى استمرار النزاعات الداخلية بين الأحباش والقبائل المحلية إلى حالة من الإنهاك السياسي والعسكري، ما مهّد الطريق أمام الفرس لاستغلال اللحظة. وبدعوة من الزعيم سيف بن ذي يزن، تدخل الفرس سريعًا، وحسموا الصراع معيدين تشكيل المشهد السياسي بتنصيب سيف بن ذي يزن حاكمًا، مع تأمين نفوذهم في اليمن دون الحاجة إلى تدخل إداري مباشر.
نووياً، اعتمدت إيران سياسة الغموض الممنهج وتعدد الرسائل والتحركات (تصريحات عامة متفائلة أحياناً، وتحركات ميدانية عسكرية أو نووية تحمل رسائل مضادة أحياناً أخرى) ولم تقدم موقفاً واحداً جامداً، بل كانت تبدّى ثم تترك النهايات سائبة ومفتوحة للتأويل. وهو سلوك منسجم تماماً مع الثقافة التقليدية الفارسية التي تعتمد استخدام الرموز والمجازات بدلاً من التصريحات المباشرة في التفاوض التقليدي.
وقد نشر الباحث الفرنسي توماس فليشي كتاباً تحت عنوان "الثقافة الفارسية في التفاوض" في عام 2011، قارن في أحد فصوله بين النهج الغربي للتفاوض مع مثيله الفارسي، مشيراً إلى انتهاء التفاوض في الأول بعقد يُعتبر الالتزام به صارماً، وانتهاء الثاني بعقد سائب النهايات متجلياً، بإمكانية التعديل والتفاوض بناء على تطورات العلاقة أو الظروف (وفي هذه الحالة، اختلف الزمن الفارسي عن غيره). وينبه الباحث في موقع آخر، إلى أسلوب اللف والدوران حول المواضيع التفاوضية عبر استخدام الحكايات أو الأمثال الشعبية كنهج شائع في المفاوضات.
لا تعرف السياسة الخارجية الإيرانية الاسترخاء أو الاستراحة، وهي تعيش حالة من المثابرة والمناورة المستدامة، ظهر أفضل تجلياتها في سلوكها بعد توقيع الاتفاق النووي (JCPOA) عام 2015، ورفع بعض العقوبات، حين لم تتعامل مع الاتفاق كنهاية للملف، بل كـ"مرحلة" قابلة للمراجعة، مراهنة على الزمن من جديد (الزمن الفارسي بالطبع!).
وهو نفس "الزمن" الذي دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخروج من الاتفاق عام 2018، مسهلاً على إيران تدوير أوراقها التفاوضية وتطوير برنامجها النووي تدريجياً مع الحفاظ على باب الحوار مفتوحاً. وهنا تطابقت المسيرة مع ما يهدف إليه الفهم الفارسي للتفاوض المرتكز على عدم وجود نهايات محددة للتفاوض ولكن توجد إمكانات لإعادة التفاوض والتعديل مع تغير الظروف (التربص والرهان على عامل الزمن).
وبين ثنايا هذا (الزمن الفارسي الخاص) سار الملف النووي الإيراني عبر منعطفات صنعها تعدد الأصوات والمواقف والرسائل، التي جاءت تارة بصورة تصريحات من وزارة الخارجية، وتارة بصور رسائل من الحرس الثوري، وغيرها بصور رسائل عبر الحلفاء الإقليميين (الحوثيين في اليمن أو حزب الله في لبنان). وقد ساهم كل ذلك في خلق حالة من الإرباك للخصم، وجعله مضطراً لمراعاة عدة أبعاد، وليس موقفاً إيرانياً واحداً بسيطاً، منسجماً مع مرونة السلوك السياسي الفارسي الذي يفضل عدم كشف أوراقه كلها في وقت واحد.