ترسخت في أذهان كثير من أبناء أمتنا العربية والإسلامية مفاهيم دينية مشوشة، تتماهى أحيانًا مع خطابات وعّاظ منحازين، أو لنَقُل: أدوات فتنة تُغلف بالورع زيفًا. وقد يتساءل البعض عن أسباب تعثر دولنا في مسارات التنمية والتحديث، وفي تقديري، فإنَّ أحد أبرز جذور هذا التأخر يعود إلى الكيفية التي نتعامل بها مع الدين، وإلى تساهلنا مع تحريف قيمه النبيلة التي كان من المفترض أن تكون منارات للنهضة لا عوائق لها.
وينسحب هذا الأمر، بدرجات متفاوتة، على مختلف المذاهب والتيارات. وبالطبع، لا يُمكن تعميم هذا الواقع على جميع الدول الإسلامية، إذ توجد تجارب ناجحة استطاعت أن توفّق بين قيم الدين ومتطلبات الدولة الحديثة.
لكنَّ الواعظ الذي يتخذ من الحاكم سندًا، غالبًا ما يتشح بعباءة الدين ويتحدث باسم الخالق، ليمنح أقواله قداسة زائفة تبدأ بآية كريمة أو حديث نبوي شريف، مما يضعف قدرة العامة على النقاش أو الاعتراض. وقد أُسيء استغلال هذا المنبر على المستويين العام والخاص، فأصبح الخطاب الديني في كثير من الأحيان وسيلة للهيمنة لا وسيلة للهداية.
واسمحوا لي أن أتناول التجربة العراقية نموذجًا، لما فيها من تشابه واضح مع ما شهدته دول شقيقة كلبنان وسوريا، حيث تداخل الدين بالسياسة، وامتزج المقدس بالمصالح، فكانت النتيجة انقسامًا مجتمعيًا، وتراجعًا في مسار الدولة، وضياعًا في بوصلة الهوية الوطنية، والتي أصبحت بفعل فاعل مذهبية أكثر من كونها عراقية.
إقرأ أيضاً: إلى متى نبحث عن أعداء الإسلام خارج حدودنا!
لنبدأ بالحديث عن المناطق ذات الغالبية السنية، حيث يلحظ المتابع أنَّ وعّاظ هذه المناطق غالبًا ما يرتبطون ارتباطًا مباشرًا بالسلطة الحاكمة، فمكانتهم الدينية ونفوذهم الاجتماعي لا ينبعان من علمهم أو استقلاليتهم، بل من قربهم من مركز القرار. فقد عملت الدولة، عمدًا أو ضمنيًا، على اختيار رجال الدين من بيئة محددة تتماهى مع بنيتها العرقية أو المذهبية أو حتى العشائرية.
ونتيجة لذلك، نرى في خطابهم الديني تكرارًا مُمِلًّا لمفاهيم الطاعة المطلقة لأولي الأمر، والدعوة إلى الصبر على الظلم والجور، مع الإحالة الدائمة للعدالة والحقوق إلى عالم الآخرة. علماً بأن عموم المسلمين، بمذاهبهم المختلفة، يتفقون على قول رسول الله ﷺ: "أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوا الْكَسْعَةَ؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، وهو حديث صريح في رفض العصبيات والانتماءات الضيقة.
هذا الخطاب يُبقي الجماهير في حالة من الغفلة، مُغيّبة عن إدراك حجم التنازلات اليومية التي تُقدّم عن وعي أو غير وعي، لحكّام ربما لا يحملون من الدين إلا شعاراته، ومن العدل إلا اسمه، وقد يكونون في حقيقتهم ليسوا أكثر من ظالمين فاسدين.
وهذا الأمر تسبب بارتفاع صوت العشيرة فوق صوت القانون.
في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، يكثر استحضار الخطاب الديني المرتبط بثورة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، تلك الثورة التي مثّلت أسمى صور التحدي في وجه الطغيان، والسعي الجاد للإصلاح، ورفض الخضوع لحاكم جائر حتى وإن كانت حياته وحياة أهل بيته ثمناً لذلك. لقد وقف الحسين موقفاً مهيباً عندما وُضعت حياته وكلمة المبايعة في كفّتي ميزان، فاختار ألا يقول الكلمة، مدركاً أن في صمته عزة وفي رفضه حياة لأمة تُقاد نحو الذل.
إقرأ أيضاً: بكاء البحر.. مالح
لكنَّ المفارقة المؤلمة تكمن في الانفصال بين هذا النهج العميق في معناه، وما يُمارس على أرض الواقع. فبدلاً من أن تكون ثورة الحسين منطلقاً للتحرر ومواجهة الفساد والظلم، تم اختزالها – في كثير من الأحيان – إلى طقوس ومظاهر تتكرر سنوياً، تركز على الألم وجلد الذات، دون أن تُترجم إلى مواقف فعلية تضع الظالم في موضع المساءلة. كأننا نسينا أن صفعة الحسين كانت موجهة إلى رأس الظلم، لا إلى أجساد أتباعه.
إنَّ هذا التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة يُشبه إلى حد كبير حالة انفصام جماعي في الوعي الجمعي؛ إذ يتغنى الناس بثورة الإمام الحسين ويستحضرون رمزية الوقوف في وجه الظلم، بينما يرزحون في واقعهم تحت وطأة فساد فاضح واستبداد مزمن دون أن يُحركوا ساكنًا. فهم يقدسون الشهيد الذي رفض المساومة، لكنهم يُهادنون الفاسدين الذين ينهبون حاضرهم ويجهضون مستقبلهم.
إنّ هذا الانفصام يتجلى بوضوح في التحولات السلوكية لدى الأفراد: فالشخص ذاته الذي يذرف الدموع على الحسين، لا يتوانى عن تبرير استبداد من ينهب قوت يومه. بل وقد يُبرّر سرقة المال العام على أنها "غنيمة مستحقة" أو "نصيب من الدولة"، وكأن الثورة لم تكن رفضًا للفساد، بل مناسبة عاطفية خالية من المضمون الإصلاحي.
هكذا، تُفرغ القيم الدينية من مضمونها التحريضي على الإصلاح والعدالة، وتُختزل في طقوس لا تُهدد الاستبداد، بل تُكرّسه. وتتحول الذاكرة الثورية إلى حالة وجدانية تُغني عن الفعل، وتجعل من التفريغ العاطفي بديلًا عن المواجهة الواعية مع الواقع الفاسد.
إقرأ أيضاً: القانون العشائري يُضعف سلطة القانون ويُهدد أركان الدولة!
إنَّ الشعوب التي لا ترى في الظلم القائم استنساخًا للظلم الذي قاومه الحسين، لم تفهم معنى كربلاء، بل اختزلته في طقوس موسمية تُستنزف فيها مشاعرها، وتُترك حياتها اليومية نهبًا لجلاديها. وهذا هو التناقض الأخطر: حين تتحول الثورة إلى وسيلة للهروب من مواجهة الواقع بدلًا من أن تكون دافعًا لتغييره، وما ذكر أعلاه ينطبق على المذهبين السنة قبل الشيعة والعكس صحيح وجهان والفكرة واحدة.
يدق ناقوس الخطر حين نسمع رجال دين معتدلين، من السنة والشيعة على حد سواء، يشرعون أخيرًا في ممارسة نوع من النقد الذاتي. وهذا تطور محمود في ظاهره. غير أن الخطورة تكمن في طبيعة هذا النقد ومآلاته.
فقد خرج مؤخرًا أحد شيوخ السنة في حديث علني ليؤكد أن الإمام الحسين كان على حق في موقفه ضد معاوية، بل ذهب أبعد من ذلك حين حمّل معاوية مسؤولية تدمير الأمة الإسلامية، معتبرًا أن الخطأ الذي ارتُكب قبل أكثر من 1300 عام لا يزال السبب الجذري في أزمات الأمة الاسلامية حتى اليوم.
ورغم جرأة هذا الطرح، فإنَّ الصدمة الحقيقية تكمن في أنَّ القليل فقط ومن مختلف الأطياف تساءل: كيف يُعقل أن يكون مصير أمة كاملة مرهونًا بخطأ تاريخي فردي لم تُفلح في تجاوزه أو تصحيحه عبر قرون؟ هل الأمة الإسلامية، بكل ما تملكه من تراث وحضارات وعقول، عاجزة عن إنتاج رجل رشيد يصلح ما فسد منذ أكثر من ألف عام؟
إنَّ مثل هذه الطروحات، وإن بدت ثورية في ظاهرها، فإنها في عمقها ترسّخ لعجز حضاري، وتحيل الحاضر بكل تعقيداته إلى رواية جامدة من الماضي، وكأن لا أحد يتحمّل مسؤولية ما نحن فيه سوى من رحلوا منذ قرون.
إقرأ أيضاً: الفرق بين تفكير الشرق والغرب في حل المشاكل
لقد امتد منطق السوق ليُهيمن على وعينا الجمعي، فتحوّلت الطائفية والانقسامات إلى سلع تُسوّق وتُستثمر سياسياً. تُصنَع الجبهات وتُغذّى الخلافات لتشتيت الشعوب عن قضاياها الحقيقية، كالفساد والاستبداد.
وفي ظل هذا الواقع، لن يعاني صانعو الفُرقة من البطالة، ما دامت السياسة قائمة على استثمار الانقسام. إننا نُسهِم في ترسيخ هذه اللعبة حين نُردّد سرديتاهم، ونتجاهل الحاجة إلى مراجعة فكرية تُعيد للأمة بوصلتها.
المثير للدهشة أن ما يطرحه بعض السياسيين من أفكار طائفية وتحريض على التناحر والتصفيات، بل وحتى اعترافات بالفساد على شاشات التلفاز، لا يُقابل بأي رد فعل من الدولة. كما أن المجتمع لا يتوقف عند حجم الجرم الذي يرتكبه السياسيون، سواء كانوا رجالاً أو نساء، بل ينشغلون بمناقشة صحة الادعاءات، رغم أنها تعزز الطائفية البغيضة التي جلبت الويلات لسنوات طويلة. وهذا يعد مؤشرًا خطيرًا، يدل على أن الشعب قد فقد بصيرته وتحول إلى قطيع، يتنقل بين التوجيهات الإعلامية وصناعة الأخبار.
في خضم التأثير الطاغي للإعلام التقليدي ومنصات التواصل الاجتماعي على تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام، أصبحت هذه الأدوات - في كثير من الأحيان - وسائل لترويج الخطابات الطائفية والمضللة، وتأجيج الانقسامات، وتثبيط الهمم، خاصة في اللحظات التي تتطلب الوعي واليقظة. ومع تسارع انتشار الشائعات والمعلومات المغلوطة، تتعمق حالة الاستقطاب وتُغسل العقول دون مقاومة تُذكر.
لقد بلغ غسيل الأدمغة بالشعوب حدًّا خطيرًا، حتى وصلنا إلى نقطة اللاعودة: الجميع بات ينتظر مخلِّصًا غيبيًا يأتي ليُنقذ ما تبقى.
إقرأ أيضاً: الاستثمار في العراق سلاح ذو حدين!
السنة ينتظرون عودة عيسى عليه السلام، والمسيحيون ينتظرون المسيح المخلِّص، والشيعة يترقبون ظهور المهدي المنتظر، وكأنهم جميعًا اتفقوا ضمنيًا على أنَّ الشر سيستفحل، وأنه لا داعي لبذل أي جهد للإصلاح، لأن "المنقذ" سيتكفّل بكل شيء لاحقًا.
تناسوا أنَّ الإصلاح مسؤولية فردية وجماعية، وفريضة واجبة على كل إنسان حي، لا هبة سماوية تأتي لمن ينتظر بكسل.
إنَّ أخطر ما أصابنا ليس انتشار الظلم، بل انتشار فكرة الانتظار... انتظار معجزة وهمية بدل أن نكون نحن المعجزة. وفي ظل هذا المشهد المربك، يبقى الأمل معقودًا على الشريحة الواعية والمثقفة في مجتمعاتنا. فالمسؤولية الأخلاقية والوطنية تقتضي أن تتحول هذه النخبة من موقع التنظير إلى الفعل، وأن تبدأ بعمل ميداني ومؤسساتي جاد لتفكيك التراث الفكري المتهالك، وإحياء مفاهيم المواطنة والولاء الوطني، التي باتت مهددة بالاندثار.
ويستلزم هذا المشروع النهضوي تفعيل الإعلام البديل والمنصات الرقمية لبث محتوى هادف يرسّخ التفكير النقدي ويفضح التضليل الإعلامي، إلى جانب إطلاق مبادرات تعليمية وتوعوية تُحصّن الأفراد ضد خطابات الكراهية والتطرف.
كما لا بد من بناء شبكات فاعلة من المثقفين والناشطين لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات، بما يعزز ثقافة الحوار، وينشر قيم التسامح، ويعيد الثقة بدور الفرد في التغيير.
فاستثمار طاقات هذه النخبة وتوجيهها نحو مشروع وطني جامع هو الطريق الوحيد لمجابهة هيمنة الإعلام الموجّه، واستعادة زمام المبادرة لبناء مستقبل أكثر وعيًا وعدالة لمجتمعاتنا.