مفاوضات أميركا وإيران، تفتح أفق الرؤية والتوقع لفضاء تفاوضي بين إيران وإسرائيل، ربما لا يكون قريباً بين البلدين، لكنَّ واقع المصالح السياسية والاقتصادية يقترح انفتاح طاولة المفاوضات والوصول إلى تسوية واتفاق بين الدولتين، طالما أنَّ إيران قد جلست مباشرة للتفاوض مع أميركا، أي "الشيطان" الأكبر كما تسميها إيران في خطابها السياسي والإعلامي.
الجلوس مع الشيطان الأكبر يقترح الجلوس مع الشيطان الأصغر، وفق سياق المصالح وحوار بناء القوة والاستراتيجية السياسية لكل من الدولتين!
ما الذي يمنع جلوس إيران وإسرائيل إلى طاولة المفاوضات؟
إسرائيل ترفض فكرة وجود سلاح نووي في حيازة إيران، ينافس قوتها بسلاح الردع والتدمير في الشرق الأوسط، وكذلك قوة صاروخية تطال تل أبيب وبقية مدن الكيان! تقابلها إيران التي تطالب بعدم تعرضها إلى الاعتداء الحربي الإسرائيلي، وتلك نقاط جوهرية في الحوار الجاري منذ ثلاثة أسابيع بين أميركا وإيران في مسقط وروما، أميركا تحمل شرط عدم امتلاك إيران السلاح النووي، وبإصرار لا يقبل الجدل والمناورة، الأمر الذي حمل إيران على القبول كاختيار أفضل من الحرب المدمرة التي تلوح بها الأساطيل الأميركية والأسلحة الإسرائيلية، الأمر الذي جعلها تجترح فكرة إنتاج النووي لأغراض سلمية!
تصادم الإرادتين الإيرانية والإسرائيلية ووقوف أميركا ودول الاتحاد الأوروبي إلى جانب إسرائيل، وفرض الحصار المشدد على إيران وتراجع اقتصادياتها وزخم التأييد الداخلي لقوة سلطات، جعلها تسلّم لمنهج الحوار والانحناء ريثما تمر العاصفة، تلك العاصفة التي دمرت حزب الله اللبناني الخط الإيراني الأول والأقوى في تهديد إسرائيل، وسقوط نظام بشار الأسد وجيء نظام معارض للوجود الإيراني، وكذلك النهاية المأساوية لغزة وتنظيماتها و(حماس)، وأخيرا الحرب التدميرية التي تشنها أميركا ضد اليمن، آخر الأذرع الإيرانية الفاعلة في تحدي إسرائيل.
منطق المناورة والتكتيك السياسي الذي تجيده إيران بروح براجماتية معروفة تاريخياً، يجعلها تنسحب إلى داخل إيران، وتعيد هيكلة وبناء قوتها الداخلية التي تعرضت لاختراقات متعددة من قبل إسرائيل وأميركا، خصوصا إسرائيل التي تفوقت مرارا في توجيه ضربات عميقة ومؤثرة في بنية النظام السياسي، مثل سرقة الأرشيف النووي، واغتيال كبير خبراء المشروع النووي، وقتل الرئيس رئيسي والوفد المرافق له، واغتيال إسماعيل هنية في طهران، وأخيرا تدمير مخزونات المواد الأولية في صناعة رؤوس الصواريخ في بندر عباس وتدمير ميناء الشهيد رجائي، وغيرها من اختراقات إسرائيلية ما زالت طي الكتمان، ولم يعلن عنها من الطرفين!
إسرائيل تدرك أن إيران دولة كبيرة، وتتوفر على موارد بشرية ومالية ضخمة، وتعادل إسرائيل بعشرات المرات، وقادرة على النهوض وتجاوز الكبوات التي مرت بها، لكن التفوق الإسرائيلي المتقدم في طرق التجسس والاختراق والتقنية الحديثة وصناعة الحرب السبرانية، إضافة لقدراتها الاقتصادية والإعلامية عالية التأثير، جعلها تتعادل مع القوة الإيرانية، وأساليبها التقليدية في إنشاء أذرع صد ومقاومة، مستثمرة بذلك التبعية الشيعية للأحزاب والميليشيات الموالية لها، لكن شوط الصراع الأخير بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بدأت إسرائيل تحقق تقدما في جبهات الصراع مع إيران.
الآن تدرك إيران أن قواعد اللعبة في الشرق الأوسط قد تغيرت، وأن القوة الضاغطة هي السبيل لفرض السلام، وطريق السلام دورة جديدة لإعادة قوة أميركا الاقتصادية، وإنهاء وجود منافس لها في الشرق سواء من الصين أو روسيا، والمنطقة ستكون مقبلة على مشاريع اقتصادية عالمية عملاقة، واستثمارات تعيد تغيير اقتصاديات الدول وسياساتها، وتنمية الدولة الوطنية في دول الشرق بشرط ارتباطها بالاقتصاد الأميركي والقرار الأميركي، وعدم خضوعها وتابعينها لدول أخرى بحكم العقائد المذهبية، والأفق يتسع لدول أخرى مثل إيران والعراق إلى جانب دول الخليج العربي، والخوض بشراكات أو عدم تقاطع مع إسرائيل؟ الحليف الاستراتيجي لأميركا!
تحولات تاريخية مهمة ستدعو دول المنطقة إلى استبدال أنماطها السياسية السائدة، والانفتاح على أخرى متحررة من القطبية المذهبية، وإنهاء حالة الشذوذ والانحطاط والفساد التي سادت خلال العقدين الأخيرين!
قراءة البعد الاستراتيجي للمصالح وفق ما تقدم من رؤى وطروحات أميركية، بحسب منهج إدارة ترامب، سوف تتحول نوع العلاقات بين الدول مختزلة جميع السياقات السابقة لترسو على رصيف المصالح الاقتصادية والسباق نحو التقنية والذكاء الصناعي، وإنقاذ نفسها من التمزق والاندثار، ما يجعل تجلي "المستحيلات" في الراهن السياسي، مقبولة وطبيعياً لاقترانها بمصالح الدول ووجودها القومي والوطني، ومن هنا يصبح التفاوض وتطبيع العلاقة بين إيران وإسرائيل يبدو طبيعياً، لكنه يستدعي مزيداً من الإدراك والتحول بطريقة التفكير في الداخل الإيراني.