كان سقراط قد أوصى قائلاً: "اعرف نفسك"، ولو بعث اليوم ورأى أحوالنا، لهرع إلى أول مقهى إنترنت ولابتلع السم بنفسه دون محاكمة. حياتنا لم تعد حياةً، بل صارت حزمة من الإشعاعات المتصلة بالشبكة العنكبوتية، يرفرف فوقها شعار: "أنت موجود طالما أنك متصل".
ها أنا أجلس، أكتب على حاسوبي الذي يرمقني بنظرة ازدراء خفية، بينما يرن هاتفي الذكي كل خمس ثوانٍ كطفل مدلل يريد أن يُسمع صراخه للعالم. الطابعة بجانبي تعاني أزمة هوية — لا تعرف إن كانت طابعة أم متحفًا أثريًا — بينما ثلاجتي، كأم حنون متطفلة، تهمس لي أن علب الحليب على وشك الانتحار من شدة انتهاء الصلاحية. على معصمي، ساعتي الذكية تهدهدني برسائل طمأنة سخيفة: "كل شيء على ما يرام. نبضك منتظم. اشرب ماء." أحقًا؟ شكراً لك أيتها الساعة، لم أكن أعلم أنني بحاجة إلى مربية إلكترونية.
لقد أصبحنا، كما وصفنا لوتشيانو فلوريدي، سكان "المجال المعلوماتي" لا أكثر. ذات مرة كنا أسيادًا للقرارات، اليوم نحن رهائن لإشعارات التطبيقات. وكما قال نيتشه، "الأدوات الصغيرة تخلق آلهة صغيرة"، ونحن الآن نعبد آلهة مصنوعة من البلاستيك والسليكون.
يحدثنا فلوريدي في "الثورة الرابعة" عن الانقلاب الهادئ على وجودنا: من مركز الكون إلى هامشه، من سادة الطبيعة إلى أبناء عمومة الشمبانزي، من حكام قراراتنا إلى عرائس ماريونيت يحركها اللاوعي. والانقلاب الأخير؟ لقد سلبتنا الآلات قدرتنا على التفكير الحسابي ذاته. وكأن ديكارت، حين قال "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لم يتخيل أن الحواسيب ستسرق منه هذا الامتياز لاحقًا.
نحن الآن أشجار مانغروف تائهة، كما يحب فلوريدي أن يتخيلنا: لا نعيش في بحر ولا في نهر، بل نغرق في مستنقع التكنولوجيا. في هذا الفضاء الرمادي، لم نعد نميز الحقيقة من الزيف، واليقين من الوهم. وهكذا أصبحنا، كما قال بودلير، "مسافرين عائدين من اللاشيء".
لكن، هل نستسلم؟ لا! فكما قال سقراط: "حياة غير مدروسة لا تستحق أن تُعاش." الفلسفة تظل حبلنا السري إلى الإنسانية. هي البوصلة التي تنقذنا من الضياع في صحراء المعلومات. وحدها تستطيع أن تفصل الغث عن السمين، أن تذكرنا بأن ما يلمع ليس دائماً ذهباً، وما هو شائع ليس دائماً حقيقياً.
ومع ذلك، كما يحذرنا بيونغ تشول هان في "الأشياء اللاشيئية"، فإن وفرة المعلومات لا تزيدنا إلا جهلاً. العالم يُصبح ضبابياً، ونحن نغوص أكثر فأكثر في بحرٍ بلا قرار. لقد تحوّلت وسائل الاتصال إلى وسائل قطيعة، وكأننا جميعًا نصيح في غرفة مغلقة، ولا يسمعنا أحد، بما في ذلك أنفسنا.
ما العمل؟ ربما الحل، كما كان يوصي هايدغر، أن نعود إلى العالم، أن نلمسه، نشمه، نخطئ في طرقه، نضيع فيه. لم نعد نعرف كيف نضيع: بفضل خرائط غوغل نعرف أين نحن دومًا، لكننا فقدنا أين نحن حقًا.
يقول هيجل إن وعينا لا يُولد إلا عبر اصطدامه بوعي الآخر. ولكننا اليوم نصطدم بالشاشات، لا بالآخرين. فقدنا الجروح التي تجعلنا بشراً. بلا جراح، نحن مجرد معلومات جافة عائمة بلا جذور.
فلنتعلم من جديد أن نغلق هواتفنا، أن نخطئ الطريق، أن نتسكع بلا هدف. لعلنا — كما قال ريلكه — "نعود إلى الحنين العميق للأرض"، ونكتشف أن أجمل ما في الحياة ليس أن تجد الطريق، بل أن تضيعه.