تطرح العلاقة بين الجمال بوصفه قيمة معنوية وأنماط الحياة بوصفها أنشطة تداولية، قضية ثنائية الروح والمادة في مختلف الفلسفات القديمة والمعاصرة، فقد ظلت دوائر إنتاج الفنون تحيط نفسها بسحر خاص ترقى به حين تقارن نفسها بالمنجز الاستهلاكي الذي يغطي الاحتياجات الأساسية للبشر، في مقابل ما يقوم به النشاط الاقتصادي من النظر إلى تجليات الفنون بوصفها مكملات يمكن أن تتراجع في سوق التنافس الصناعي وتلبية المتطلبات الأساسية لسكان العالم.
لم توضع الجماليات والاحتياجات في سياق واحد بدرجة مقنعة للعقل يمكن من خلالها أن يحدث التصالح بين الجماليات المحضة والحركة التجارية التنافسية في مضمار التداوليات العالمية، ولكن استطاعت فيلسوفة علم الجمال الأميركية سوزان لانجر أن تستخلص شكلًا جديدًا لتلك الثنائية المفاهيمية يمكن من خلاله أن يتضافر الفن والعلم في تأدية الدور الحضاري الذهني والسلوكي للإنسانية، فقد رأت لانجر أنَّ الجمال بشكل عام يمثل طريقة عمل العقل في الإدراك والمعرفة والإبداع. من هذا المنظور، فإنَّ تحديد قواعد الجمال من الفنون هي الأساس الذي يمكن أن يحكم صياغة الاستراتيجيات التعليمية لتكوين العقل الابتكاري.
إنَّ استخدام الألوان في اللوحات أو الإيقاع في الشعر أو طرق صياغة الحكاية في السرد تدل على المسار الذي يتخذه الفكر البشري وهو ينتج أشكال وجوده في تفاعله مع العالم وهذه الأشكال تستطيع أن تفيدنا في برامج إعداد الدارسين ليس في مجال الدراسات الإنسانية النظرية فحسب، إنما في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات والتطبيقات التقنية، فيمكن أن نستخدم طرق السرد في بناء النموذج المعرفي للطالب، كذلك الإيقاع الشعري في تنمية الذاكرة واستجابة الذات حين يعرض العالم أمامها مواضيعه التي تحتاج إلى تنظيم، كذلك الألوان تساعدنا على رسم الخريطة الكلية للمفاهيم وتحديد العلاقات بينها ودرجات الاتساق أو التنافر التي تتسبب في التآلف البشري والعمراني أو التباعد بين أصحاب الاتجاهات الفكرية المتباينة.
من هذا التصور لا يمكن تنشئة الدارسين في برامج العلوم المتنوعة دون أن يكون المتقدمون لهذه البرامج أصحاب خبرات فنية سابقة بمعنى أنهم قد تلقوا نوعًا من التعليم الذي تتجلى فيه المفاهيم الجمالية وقوانينها، لذلك توضع مقررات فنية بجانب المواد العلمية داخل البرامج المتعددة التي يتقدم إليها الطلاب أيا كانت تخصصاتهم، فعلم الجمال لا معزل له عن سياق إنتاج التطبيقات التقنية والمهارات العملية والكيانات الصناعية والعمليات التجارية، لأن كل هذه المحاور في حالة تهيئة المجتمع لها لن تتجاوز التقليدية النمطية إلى الإبداع الابتكاري إلا إذا كانت مفاهيم الجمال مطروحة في المرجعية الثقافية لخبرات القائمين على برامجها بالإضافة إلى التنمية الدائمة للمتقدمين لمراحل التعلم المختلفة.
هذا التوجه النظري الذي طرحته فلسفة لانجر نجد له تمثيلات سردية من أهمها رواية "هيا نشتر شاعرًا" للمبدع البرتغالي أفونسو كروش، وهو مثل لانجر أديب وموسيقي ومفكر، وفيها يبحث عن صيغة حجاجية يمكن أن تساعد العقل العملي الراهن على الاهتمام بوظيفة الإبداع في ابتكار أساليب الحياة الاجتماعية منذ تفتح الوعي في نهاية الطفولة ومطلع المراهقة، ومع أن كروش قد استخدم الأسلوب الكنائي الساخر في التعبير عن فكرته الناقدة لسياق الحياة المادي فإنه استطاع أن يبرهن على أهمية الفن في فتح نوافذ يرى منها الإنسان الآني عالمًا أكثر رحابة يستطيع أن يبدع فيه تجليات نفسه بالإضافة إلى اهتمامه بالأرقام التي حاصرت نشاطه ولم يعد يستطيع أن يبتعد عنها وقدم في نهاية الرواية الدور الاقتصادي الذي يمكن أن يؤديه الإبداع في تنمية حياة الشعوب.