: آخر تحديث

المدن في قلوب سحرة الإبداع

12
10
8

هل يمكن أن تسقط في عشق مدينة ما، لأنها كانت حلمًا لأحدهم، لأنها كانت سرًا من أسرار بعضهم؟ كم عاصمة في العالم؟ وكم من المبدعين حول هذا الكوكب اللؤلؤي، يجعلك رغمًا عنك تبحث عن المدينة التي أشعلت كل هذا الحب داخل قلب المحب، وهذا ما حدث حينما قرأت السيرة الذاتية للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني: ساحر السينما، حينما تكلم في مذكراته كيف التقى بمحبوته روما، وكيف أصبحت جزءًا حقيقيًا من حياته الفنية والخاصة.

فلليني واحد من أبرز المخرجين في تاريخ السينما العالمية، وعُرف بأسلوبه الفريد والمعقد الذي يدمج بين الخيال والواقع. وُلِد في 20 كانون الثاني (يناير) 1920 في مدينة ريميني الإيطالية، وتوفي في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1993. وقد ترك بصمة لا تُنسى في عالم السينما، مما جعل منه "ساحر السينما".

فيلليني كان لديه علاقة عميقة ومعقدة مع مدينة روما، والتي شكّلت مصدر إلهام رئيس في أعماله السينمائية، في مذكراته وأحاديثه، عبّر عن حبه الشديد لهذه المدينة، مشيرًا إلى أنها كانت مركزًا لتجاربه وآرائه ورؤاه الفنية. من أبرز الأفكار التي تناولها فيلليني في مذكراته حول حبه لروما حينما وصفها بأنها المدينة المعلم، فاعتبر روما ليست مجرد مدينة، بل شخصية حية ومتفاعلة، ووصفها بأنها معلم ومدرسة، حيث تعلّم دروس الحياة والفن من شوارعها وشخصياتها، كما ذاب عشقًا في جمال روما الفريد، ولكنه أيضًا أشار إلى الغرابة والانحراف الذي يميز الحياة فيها. كان دمج هذه العناصر هو ما ألهم الكثير من أفلامه، حيث كانت تمثل الفوضى والجمال في آن واحد. أما من ناحية الذاكرة والحنين فروما في أفلامه كانت تجسد ذكرياته الشخصية، خاصة ذكريات الطفولة. في "أماركورد"، على سبيل المثال، استند إلى تجاربه في المدينة خلال فترة شبابه، مما أضاف عمقًا إنسانيًا للأحداث.

هناك العديد من المبدعين العرب الذين عُرفوا بعشقهم لمدنهم، وقد عكست أعمالهم الأدبية والفنية هذا الحب والارتباط العميق، ومن هؤلاء المبدعين نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأدب، يمثل القاهرة في رواياته. في مجموعة من أعماله مثل "الثلاثية" (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، قدّم تصويرًا حيًا للقاهرة كما عاشها، بأسواقها وشوارعها وأهلها. أظهر فيها كيف أن المدينة تعكس تفاصيل حياتهم وتاريخهم. فيما أدونيس الذي عرف بمكانته في الشعر العربي المعاصر والذي تعود أصوله إلى سوريا، يتغنى دائمًا بمدينته، وفي الكثير من قصائده، يستحضر مدينة حمص، معبرًا عن جمالها وذكرياته فيها، محاولًا التقاط روح المدينة وتأثيرها على مغزى الحياة والشعر. 

ويعتبر جبران جسرًا بين الشرق والغرب، وقد كتب العديد من المؤلفات التي تعبّر عن حبه لمدينته بشرّي وعما تمثله له. في أعماله مثل "النبي"، يستخرج من جمال الطبيعة والمكان أسئلة روحية ورؤى إنسانية. كما يعتبر طه حسين أحد أبرز الأدباء المصريين، عن حبه لمدينتي القاهرة والإسكندرية. في كتاباته، تستعرض تجاربه الشخصية في تلك المدن، وتأثيرهما على ثقافته وفكره. أما كاتب القصص القصيرة يوسف إدريس، فمعروف بتصويره الحياة اليومية في القرى والمدن المصرية. في كتاباته، ترسم التغيرات الاجتماعية والثقافية، وتعكس التأثير القوي للمدن على شخصياته وعوالمه. أما في عالم المبدعات فالأديبة والشاعرة الكبيرة غادة السمان، فتعبر عن حبها لمدينتها دمشق في الكثير من مقالاتها ورواياتها. تسلط الضوء على الجمال والتاريخ الغني للمدينة، وتستخدمها كخلفية لرواياتها وأشعارها. ولا يمكن أن ننسى الشاعر المصري أمل دنقل حيث قدّم ولاءه الكبير لأرضه، حين تغنى بمدن مصر وتراثها. شعره يحمل الكثير من الشغف والحنين للمكان، وقد تطرق إلى قضايا المدينة وتأثيرها على الهوية.
هؤلاء المبدعون تجلّى عشقهم لمدنهم في أعمالهم الفنية والأدبية، واستخدموا تلك المدن كخلفيات وأساسيات تعكس تجاربهم وعواطفهم ورؤاهم للعالم من حولهم. فكانت المدن بالنسبة لهم أكثر من مجرد أماكن، بل كانت تجسد الهويات والتاريخ والثقافة.

اعتبر فيلليني الحياة اليومية في روما مصدر إلهام كبير له. كان يستلهم من الأحداث اليومية والشخصيات التي يراها في الشوارع، مما جعل أعماله تنبض بالحياة. كما تحدث عن كيف أن روما تستطيع أن تخلق أجواء سحرية، حيث يصبح كل شيء ممكنًا، خاصة في الليل. كان يرى أن المدينة تحمل روح المسرح التي تجذب الناس وتتفاعل معهم. وفرّق فيلليني بين روما كمدينة وأفلامه عنها، مشيرًا إلى أن روما ستكون لها مكانة دائمة في فنه. حتى عندما ينتقل إلى أمكنة أخرى، كانت ذكرى روما تظل تلاحقه.

عشق فيلليني لروما كان عميقًا وليس مجرد شعور عابر، بل كان له تأثير كبير على فنه ورسالته. كل هذه الأفكار تظهر في أعماله، مما يجعل السينما الإيطالية بشكل عام، وأفلامه بشكل خاص، تخلد جمال وروعة وتعقيدات هذه المدينة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.