وسط عالم يترنح بين التقلبات الاقتصادية والاضطرابات الجيوسياسية، يقف الاقتصاد العالمي في مفترق طرق، حيث لا تزال الدول تسابق الزمن لمواكبة التحولات المتسارعة التي تعيد تشكيل المشهد المالي والتنموي. الأسواق تتأرجح، والقطاعات تتباين بين الازدهار والتباطؤ، فيما يواجه النمو تحديات غير مسبوقة في مختلف أنحاء العالم.
في كل منطقة، هناك قصة تُروى بلغة الأرقام والتوقعات، من جنوب آسيا التي تبحث عن توازن جديد وسط تباطؤ النمو، إلى أفريقيا جنوب الصحراء التي تكافح لكسر قيود الفقر رغم مؤشرات التعافي. وبينما تكافح أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي مع أعباء الديون وتراجع الاستثمار، تواصل أوروبا وآسيا الوسطى إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية لضمان قدرتها التنافسية، فيما تبقى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في سباق طويل لتعزيز الإنتاجية وتقوية دور القطاع الخاص.
أما في شرق آسيا والمحيط الهادئ، حيث كان النمو الاقتصادي يتصدر المشهد العالمي، فإن التحديات المناخية والديموغرافية ترسم سيناريوهات جديدة لمستقبل الاقتصاد في المنطقة. كل ذلك يجعلنا نتساءل، كيف يمكن للاقتصاد العالمي أن يحافظ على توازنه وسط هذه العواصف، وما الذي يتطلبه الأمر لضمان استدامة النمو وتحقيق الاستقرار المالي في السنوات القادمة؟
يشهد الاقتصاد العالمي تغييرات جوهرية وتحديات متزايدة في مختلف المناطق، حيث ترصد التقارير الإقليمية للبنك الدولي أحدث المستجدات الاقتصادية والتطورات التي تؤثر على النمو والاستقرار المالي. في ظل حالة عدم اليقين العالمية، تختلف آفاق النمو والتحديات من منطقة إلى أخرى، وهو ما يفرض على الحكومات إعادة النظر في استراتيجياتها الاقتصادية لمواكبة المتغيرات.
تعاني منطقة جنوب آسيا من تباطؤ اقتصادي ملحوظ، حيث يُتوقع أن يتراجع النمو إلى 5.8% في عام 2025، بانخفاض قدره 0.4 نقطة مئوية عن التوقعات السابقة، وقد أثرت الصدمات الاقتصادية المتكررة خلال العقد الماضي على قدرة الحكومات في توفير احتياطيات مالية كافية، ويشير البنك الدولي إلى أن تحسين الإيرادات الضريبية من خلال سد الثغرات، وتبسيط القوانين، وتعزيز الامتثال الضريبي، قد يكون مفتاحًا لتعزيز قدرة المنطقة على مواجهة الأزمات المستقبلية. رغم حالة عدم اليقين الاقتصادي، فإن منطقة أفريقيا جنوب الصحراء تظهر مرونة نسبية، إذ يُتوقع أن ينمو اقتصادها بنسبة 3.5% في عام 2025، ويتسارع إلى 4.3% في 2026-2027، ويعود ذلك إلى زيادة الاستهلاك الخاص والاستثمارات، إضافةً إلى تراجع التضخم واستقرار العملات، ورغم ذلك، تواجه المنطقة تحديات هيكلية، مثل ارتفاع معدلات الفقر، وعدم كفاية فرص العمل، خاصة للشباب، مما يفرض على الحكومات إعطاء الأولوية لخلق اقتصاد أكثر عدالة واستدامة.
في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية، تستمر أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي في مواجهة تحديات عميقة، حيث تُظهر البيانات أن المنطقة ستنمو بنسبة 2.1% في 2025 و2.4% في 2026، مما يجعلها أبطأ مناطق العالم نموًا، ومن أبرز العوائق التي تواجهها تراجع الاستثمار وارتفاع مستويات الدين العام، حيث يُتوقع وصول نسبة الدين إلى 63.3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، مقارنةً بـ 59.4% في 2019، مما يضغط على الحكومات لإيجاد حلول مالية مستدامة. سجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموًا متواضعًا بلغ 1.9% في 2024، وسط حالة عدم اليقين العالمية وضعف الإنتاجية الاقتصادية، ويركز التقرير على أهمية دور القطاع الخاص، إذ يعد المحرك الأساسي لخلق الوظائف وتعزيز الابتكار، إلا أنه في هذه المنطقة يفتقر إلى الديناميكية والاستعداد لمواجهة الصدمات، ويوصي البنك الدولي بضرورة تحسين بيئة الأعمال، وضمان المنافسة العادلة، وإتاحة البيانات لتعزيز أداء القطاع الخاص ودوره في دفع عجلة النمو. يُتوقع أن يتباطأ النمو في الاقتصادات النامية في أوروبا وآسيا الوسطى إلى 2.5% في المتوسط خلال 2025-2026، نتيجة عدم اليقين الاقتصادي العميق، ولتحسين قدرة المنطقة على المنافسة عالميًا، يتطلب الأمر إصلاحات في بيئة الأعمال، ودعم الشركات الناشئة، وتعزيز فرص حصول رواد الأعمال على التمويل طويل الأجل، إضافةً إلى الاستثمار في التعليم والتدريب لضمان استدامة النمو الاقتصادي. كانت منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ من بين أسرع المناطق نموًا اقتصاديًا في عام 2024، لكن التحديات طويلة الأجل مثل التغير المناخي والتطورات الديموغرافية تفرض على الحكومات استراتيجيات جديدة للحفاظ على هذا الزخم، ويتوقع البنك الدولي أن يتراجع نمو المنطقة إلى 4.0% في 2025 مقارنةً بـ 5.0% في 2024، حيث تعتمد التوقعات على كيفية تعامل الحكومات مع حالة عدم اليقين الاقتصادي والاستجابة الفعالة للمتغيرات العالمية.
تكشف التقارير الإقليمية للبنك الدولي أن الاقتصاد العالمي يشهد تباينًا كبيرًا في النمو بين المناطق المختلفة، إذ تواجه بعض الدول تباطؤًا حادًا بسبب ارتفاع الديون أو ضعف القطاع الخاص، بينما تُظهر مناطق أخرى قدرة على الصمود رغم التحديات، ومع استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي، يبقى مفتاح النجاح في تبني سياسات أكثر مرونة، وتحفيز الإصلاحات المالية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في دفع عجلة التنمية، لضمان استدامة النمو وتحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.
بينما يواصل الاقتصاد العالمي تحوله وسط التحديات وعدم اليقين، تظهر الحاجة الملحة إلى إستراتيجيات أكثر مرونة لمواجهة الصدمات المستقبلية وضمان استدامة النمو الاقتصادي. من الضروري أن تولي الحكومات أولوية للإصلاحات المالية وتعزيز كفاءة الإنفاق العام لتخفيف أعباء الديون وتحفيز الاستثمار. ينبغي أيضًا التركيز على تمكين القطاع الخاص، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف الديناميكية الاقتصادية، لضمان خلق المزيد من الفرص الوظيفية وتحقيق تنمية أكثر استدامة.
يعد تعزيز التنوع الاقتصادي خطوة أساسية لتقليل الاعتماد على مصادر دخل محدودة، مما يساعد الدول على مواجهة التحديات العالمية بشكل أكثر مرونة. كما أن الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار سيمكن الاقتصادات من التكيف مع التحولات الرقمية وضمان استمرارية النمو في القطاعات الحيوية.
ومع استمرار التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية، يجب على الحكومات أن تتبنى سياسات استباقية وتضع استراتيجيات طويلة الأمد تستند إلى الشفافية والاستدامة، لضمان أن يكون النمو الاقتصادي شاملاً وقادرًا على مواجهة الأزمات المستقبلية. لا يزال الطريق أمام العالم مفتوحًا للتقدم، ولكن ذلك يتطلب رؤية واضحة واستعدادًا مستمرًا لمواجهة التحديات القادمة بثقة وحكمة.
صحافي وكاتب اقتصادي
@jbanoon