: آخر تحديث

اللعنة الأولى: حين زرعت سومر وعيلام بذرة الحرب التي لا تموت

1
1
1

في بدايات التاريخ، حين لم تكن الأمم تعرف الأعلام، ولا العروش تعرف الحدود، كانت الأرض تئنّ تحت أقدام أولئك الذين قرروا أنَّ الحرب هي اللغة الأولى بين الحضارات، قبل أن تُكتب القوانين، وُضعت الدماء كحبر أول فوق وجه الجغرافيا. لم تكن سومر وعيلام تدركان، حين اشتبكتا في أول حرب موثقة في سجل الإنسانية، أنهما لا تؤسسان لنزاع عابر أو اشتباك عسكري حدودي، بل تكتبان سطراً أول في كتاب لعنة طويلة… لعنة جغرافية، نفسية، وسياسية ما زالت تعيد إنتاج نفسها حتى يومنا هذا وبأسماء مختلفة.

نحو 2700 قبل الميلاد، في قلب بلاد الرافدين، قاد الملك السومري إنمي باراجيسي من مدينة كيش، حملة عسكرية ضد مملكة عيلام الواقعة إلى الشرق، في منطقة تُعرف اليوم بخوزستان الإيرانية (الأحواز المحتلة). وقد وثّقت قائمة الملوك السومريين هذه الحرب بصيغة مقتضبة لكنها حاسمة: (إنمي باراجيسي، الذي أسر ملك عيلام). كانت تلك أول حرب تخرج من رحم الأسطورة لتدخل سجل الكتابة، إذ كانت الكتابة نفسها وليدة سومر، وشهدت على أول نزاع منظم بين كيانين سياسيين عابرين للقبائل.

لكن، ما يبدو مجرد حدث عسكري قديم، هو في حقيقته نموذج أولي لعقيدة الصراع بين ضفتي دجلة والجبال الزاغروسيّة. فمنذ تلك اللحظة، وكأن الأرض تذكرت مذاق الدم، وظلت تطلبه من حين لآخر. فالحرب التي اشتعلت بين سومر وعيلام لم تُدفن في الطين، بل استيقظت مراراً عبر قرون طويلة، على هيئة غزوات آشورية، وثارات بابلية، وحملات عباسية، وانفجارات قومية، وحروب حديثة جثمت على صدور الناس من حرب القادسية في القرن السابع إلى (قادسية صدام) في القرن العشرين.

اللافت أنَّ الجغرافيا لم تتغير. الموقع ذاته ظلّ وعاءً للعداء: شط العرب، الأحواز، ميسان، ديالى، مهران، زرباطية، البصرة… كلها أسماء تكررت على صفحات الحروب، وكأن الأرض تحمل ذاكرة غضبها الخاصة، بينما يتبدّل الزعماء والرايات واللغات، تظلّ الأرض تحتفظ بألمها الأول، كما تحتفظ الجروح العميقة بندبة لا تغيب.

السؤال المرعب: لماذا لا تنتهي الحرب هناك؟

الجواب ليس فقط في السياسة، بل في الذاكرة العميقة للهوية. نعم أنا أعني ما أكتب وأقول.

لقد مثّلت سومر مهداً لحضارة تسعى إلى التنظيم والمدينة، بينما جسّدت عيلام امتداداً لثقافة الجبال والانغلاق. وهذا التباين البنيوي بين الانفتاح والتحصن، بين السهل والمرتفعات، بين الكتابة والرمز، بين الحرف والنقش، هو ما زرع جذوة الشك المتبادل. وظلّ هذا الشك يعيد صياغة نفسه في شكل هيمنة، أو رد هيمنة.

في العصر الحديث، عندما اندلعت الحرب بين العراق وإيران عام 1980، لم تكن مجرد مواجهة بين نظامين متنازعين، بل كانت في عمقها صدى لعنة سومرية قديمة. لأن كلاً من الطرفين ارتدى سرديته كما يرتدي المحارب درعه: العراق بعروبة الرافدين، وإيران بإرثها الفارسي الإمبراطوري. وكأن الماضي لم يرحل، بل استبدل عربات الخشب بالدبابات، والسيوف بالصواريخ، لكنه حافظ على عين الهدف: الهيمنة على النقطة التي تتقاطع فيها الأرض بالماء، والتاريخ بالهوية.

الأسطورة هنا لم تعد ميتة، بل حيّة تنبض في خطاب كل دولة تتوجس من الأخرى. حتى في لحظات السلام الظاهري، يبقى الحذر قائماً، لأن اللعنة لم تُفكّ. وفي كل أزمة دبلوماسية أو مناوشة حدودية أو صراع على ميليشيات مسلحة، تظهر تلك الحرب القديمة من تحت الرماد، كما لو أن طائر الفينيق الذي احترق في كيش قد عاد ليحترق من جديد في البصرة.

ليس هذا إسقاطاً عاطفياً على التاريخ، بل اعتراف بأن بعض الجروح لا تُشفى بالوقت، بل تزداد عمقاً كلما تجاهلناها. وربما هنا يكمن الخطأ الأكبر في فهم الجغرافيا السياسية لمنطقة العراق–إيران: أنها ليست فقط مسرحاً لتبادل المصالح، بل مرآة لصراعٍ قديم، وذاكرة تصرّ على إعادة سرد فصولها بحماقة التاريخ الحديث.

العراق وإيران لا يتجاوران فقط، بل يتنازعان على من يكتب الرواية. ولأن الروايات تُكتب بالدم دوماً وإن ادعى الكاتب غير ذلك، فإن كل جيل يورث الذي بعده خرائط جديدة للصراع، لكنها دائماً تدور حول نفس المحور: السيطرة، والهوية، والمظلومية.

إنها لعنة لم تولد من طمع زعيم، ولا من هوس حدود، بل من تلك الحرب الأولى حين قرر ملك سومري أن يعبُر شرقاً، ويُمسك بتلابيب العيلاميين. من تلك اللحظة أصبحت الحرب هناك ليست مجرد خيار، بل احتمال دائم في هواء الأرض وماء النهر.

ولعلّ أخطر ما في هذه اللعنة، أنها تُخفي نفسها تحت قناع اللحظة. فتبدو وكأنها خلاف على ميليشيا هنا، أو ميناء هناك، أو ممر نفطي، لكنها في الجوهر، حرب سرديات لم تُحسم بعد. كل طرف ما زال يرى في نفسه الوريث الشرعي للتاريخ، ويرى في الآخر متسللاً غريباً. وحين تتصارع الهويات المؤجلة، يُستدعى الماضي كسيف، لا كمرآة.

لكن هل من مخرج يا ترى؟

ربما لا يكون المخرج في السياسة، بل في الاعتراف. نعم الاعتراف بأن التاريخ ليس سجناً، بل دليل تحذير، وأن الجغرافيا لا تُلعن إلا حين نصرّ على تكرار الخطايا نفسها. ولعلّ الجيل القادم، إن أراد، يستطيع أن يقطع هذا الحبل السريّ بين كيش وعيلام… لكن فقط إذا قرأ التاريخ كجمر، لا كورقة صفراء.

لكن قبل أن نغلق هذا الباب الطيني المفتوح منذ آلاف السنين، لا بد أن نسأل، لا بصوت المؤرخ، بل بنبض الفيلسوف… أن نسأل كما يرقص السؤال في عتمةٍ لا تبحث عن جواب، بل عن وعي جديد:

هل الأرض تحفظ ضغائنها في طبقاتها كما يحفظ الجسد أثر الطعنة؟ أم أننا نحن من نحرث فوق الذاكرة ونقول إنها صدفة جغرافية؟  

لماذا تعود الحرب إلى نفس المكان، بنفس الخوف، لكن بأعلام مختلفة؟ هل نحن نعيد ارتداء المأساة لأننا لا نعرف كيف نكتب مصيراً آخر؟  

هل الجغرافيا تلد اللعنة… أم أن اللعنة تخلق الجغرافيا؟ وأين ينتهي حدود المكان ويبدأ شكل الدم؟  

إذا كانت الكتابة وُجدت لتوثّق السلام، لماذا كانت أول سطورها حروبًا؟ هل اختار الإنسان السرد ليبرّر قتله أم ليهرب من خزيه؟  

متى يصبح التاريخ درساً، لا سكيناً؟  

أم أن بعض الأمم لا تتعلم إلا حين تُجرَّح ألف مرة في نفس الجرح؟  

هل بوسعنا أن نكسر لعنة سومر وعيلام، أم أن الحرب قدرٌ محفور في شيفرة الطين؟ ومن ذا الذي يجرؤ على تحدي ذاكرة الأرض؟  

ربما وحدها الحقيقة يمكنها أن تفكّ اللعنة. وربما علينا، نحن الذين نحمل إرث الدم والطين، أن نتعلّم أخيراً كيف نكون أبناء التاريخ… لا وقوده.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.