تُعدّ العقيدة العسكرية بمثابة الدستور غير المكتوب الذي يوجّه عمل القوات المسلحة لأي دولة، وحجر الزاوية في بناء أي جيش حديث، فهي تحدد كيفية استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية، وتتأثر العقيدة العسكرية بعوامل عدة مثل التاريخ والثقافة والجغرافيا والتكنولوجيا والموارد المتاحة، ومن هذا المنطلق يكتسب تحديد العقيدة العسكرية أهمية بالغة في بناء جيش قوي وفعّال قادر على حماية الأمن القومي. لقد ظهرت مدرستان رئيسيتان في العقيدة العسكرية خلال القرن العشرين: المدرسة الغربية والمدرسة الشرقية. وفي ظل التغيرات الجيوسياسية والعسكرية المتسارعة التي يشهدها العالم، يُطرح السؤال نفسه: أيّ من هاتين المدرستين، الغربية أم الشرقية، هي الأقرب إلى عقيدة الجيش السوري في المستقبل؟ وما هي العوامل التي ستؤثر في تحديد هذه العقيدة؟ هل سيختار الجيش السوري تبني عقيدة عسكرية غربية تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة، أم سيبقى متمسكًا بالعقيدة الشرقية التي تركز على القوة البشرية؟ أم أنه سيسعى إلى إيجاد مزيج بين المدرستين يتناسب مع الظروف والتحديات التي يواجهها؟
للوصول إلى إجابة عن هذه الأسئلة، لا بدَّ أن نعرف باختصار ميزات العقيدتين الغربية والشرقية، إذ تعتمد العقيدة الغربية في جوهرها على الاهتمام بالتكنولوجيا وتعتبرها عنصرًا حاسمًا في تحقيق التفوق العسكري، ويتمثل ذلك في تطوير واستخدام أسلحة متطورة، وأنظمة اتصالات حديثة، وتقنيات استطلاع متقدمة، كما تركز على القوة النارية الهائلة، من خلال استخدام الطائرات المقاتلة والصواريخ الدقيقة والمدفعية الثقيلة لتحقيق تدمير سريع وفعّال لقوات العدو. كما تعتمد على القوى الجوية عنصرًا أساسيًا لتحقيق التفوق الجوي وتقديم الدعم الناري للقوات البرية، كما تعتمد العقيدة الغربية على العمليات المشتركة لأهميتها، والتي تتضمن تنسيقًا وثيقًا بين القوات البرية والجوية والبحرية، لتحقيق أهداف مشتركة. وتتميز العقيدة الغربية بالمرونة والقدرة على التكيف مع مختلف الظروف القتالية، كما تركز على القدرة على الانتشار السريع للقوات، من خلال استخدام الطائرات ووسائل النقل الأخرى، للوصول إلى مناطق الصراع في أسرع وقت ممكن. باختصار، يمكن القول إن العقيدة العسكرية الغربية تسعى إلى تحقيق التفوق العسكري من خلال استخدام التكنولوجيا المتقدمة والقوة النارية، وتنفيذ عمليات مشتركة مرنة وسريعة.
أما العقيدة العسكرية الشرقية فتتميز في جوهرها بالتركيز على القوة البشرية الكبيرة والقدرة على التحمل وتعتبرها عنصرًا حاسمًا في تحقيق التفوق العسكري، ويتمثل ذلك في الاعتماد على أعداد كبيرة من الجنود وتدريبهم على التحمل والصمود في مختلف الظروف القتالية، كما تركز على الروح المعنوية العالية والتضحية والانضباط. كما تُعتبر القوات البرية والمدفعية عنصرًا أساسيًا في العقيدة الشرقية، وتُستخدم لتحقيق السيطرة على الأرض وتقديم الدعم الناري للقوات المتقدمة. وتتميز العقيدة الشرقية بالتركيز على بناء دفاعات قوية وتحصينات متينة، لحماية القوات والمناطق الإستراتيجية. باختصار، يمكن القول إن العقيدة العسكرية الشرقية تسعى إلى تحقيق التفوق العسكري من خلال استخدام القوة البشرية الكبيرة، وتنفيذ عمليات برية ومدفعية مكثفة، وبناء دفاعات قوية. وهنا يجب أن نتذكر جيدًا أن الجيش السوري في حقبة آل الأسد تأثر بشكل كبير بالعقيدة العسكرية الشرقية، خاصة العقيدة السوفيتية "الروسية" من حيث التنظيم والتسليح والتدريب، ولهذا اعتمد الجيش السوري على القوات البرية والمدفعية الثقيلة، وتميّز بالقوة البشرية الكبيرة والقدرة على التحمل. لكن ما حدث ويحدث الآن في سوريا وما حولها من صراعات حديثة يجعلنا بحاجة ماسة إلى التكيف مع الحروب غير التقليدية، والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، والعمليات المشتركة.
إن أهم التحديات التي تواجه بناء الجيش السوري في المستقبل، بعد سنوات من الصراع، هو تأسيسه من جديد على أسس حديثة ومتطورة للتكيف مع التهديدات الجديدة، مثل الإرهاب والحرب السيبرانية، وهذا يتطلب تأمين الموارد المالية والبشرية. وأعتقد أننا إذا أردنا أن نختار العقيدة المناسبة للجيش المنشود، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عددًا من العوامل المؤثرة مثل الجغرافيا السورية المتنوعة، التي تتطلب القدرة على العمل في مختلف البيئات، والتهديدات المتنوعة التي تتطلب جيشًا متعدد القدرات، والأخذ بعين الاعتبار الموارد المحدودة التي تتطلب التركيز على الكفاءة والفعالية. ولهذا، من المرجّح أن يتبنى الجيش السوري في المستقبل عقيدة عسكرية هجينة تجمع بين عناصر من العقيدتين الغربية والشرقية، وذلك مع الأخذ في الاعتبار الظروف المحلية والموارد المتاحة. وهنا لا بد من التركيز على تطوير القوات الجوية والعمليات الخاصة، وتحديث القوات البرية والمدفعية، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، مع الحفاظ على القدرة على التحمل والقوة البشرية.
ختامًا، يتبيّن لنا أن مستقبل الجيش السوري يتوقف بشكل كبير على قدرته على اختيار العقيدة العسكرية الأنسب له، والتي تتوافق مع ظروفه الخاصة وتحدياته المستقبلية. إن هذا الاختيار ليس مجرد مسألة فنية، بل هو قرار إستراتيجي يؤثر على الأمن القومي والاستقرار الإقليمي. لا شك أن الجيش السوري يواجه تحديات جمّة في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، سواء على المستوى التكنولوجي أو الجيوسياسي، لذا فإن تبنّي عقيدة عسكرية مرنة وقابلة للتكيف يُعتبر أمرًا ضروريًا لضمان قدرة الجيش على مواجهة هذه التحديات بفعالية. ولهذا فإنَّ عملية إعادة بناء الجيش السوري وتحديثه تتطلب دراسة متأنية للعقائد العسكرية المختلفة، وتقييم نقاط القوة والضعف في كل منها، واختيار العناصر التي تتناسب مع احتياجات الجيش السوري وموارده المتاحة. قد يتطلب ذلك تبنّي عقيدة هجينة تجمع بين عناصر من العقيدتين الغربية والشرقية، مع التركيز على تطوير القدرات التي تمكّن الجيش من التكيف مع الحروب الحديثة، مثل الحروب السيبرانية وحروب الجيل الرابع. علاوة على ذلك، يجب أن يُولي الجيش السوري اهتمامًا كبيرًا بتطوير قدراته البشرية، وتدريب قواته على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتعزيز روح الابتكار والإبداع في صفوفه. إن العنصر البشري يظل هو الأساس في أي جيش، ومهما بلغت التكنولوجيا من تقدم فإنها لا يمكن أن تحلّ محل العنصر البشري المدرّب والمؤهّل. في نهاية المطاف، إن مستقبل الجيش السوري يعتمد على قدرته على التطور والتكيف مع التغيرات في البيئة العسكرية، وتبنّي عقيدة عسكرية حديثة وفعّالة، وتطوير قدراته البشرية والتكنولوجية. وتحقيق ذلك يتطلب رؤية إستراتيجية واضحة وإرادة سياسية قوية وجهودًا متواصلة من جميع الأطراف المعنية.