يواجه المسلم المعاصر إشكالية كبرى في التعامل مع النصوص الشرعية، حيث تحوَّلت بعض القراءات الفقهية من اجتهادات بشرية قابلة للتعدد إلى مسلَّمات دينية غير قابلة للنقاش.
الحديث النبوي الشريف "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" الذي رواه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، يُمثِّل نموذجًا حيًّا لهذه الإشكالية، حيث يتم تناوله بقراءات متباينة تصل أحيانًا إلى حد التناقض.
الحديث الشريف له روايات متعددة، ومنها رواية ابن ماجه عن أن الرجل قال في ختام كلامه: "والله لا أزيد على هذا أبدًا ولا أنقص"، فتبسم النبي ﷺ وقال: "إن صدق ليدخلن الجنة".
وأرى أن القراءة السليمة تتطلب جمع النصوص لا تفريقها. فحديث "أفلح إن صدق" يُظهر سعة الرحمة الإلهية. وحديث "أنا عند ظن عبدي بي" يؤكد على سعة المغفرة، والحديث القدسي "لو أتيتني بقراب الأرض خطايا..." (رواه الترمذي) لا يعني الترخيص بالمعاصي، بل:
- يشترط عدم الإشراك بالله
- يفترض استشعار مراقبة الله ("علم أن له ربًّا")
- يتضمن الاستغفار الصادق لا المجرد اللفظي
ومن هنا، فإن الاقتصار على رواية واحدة لتبرير منهج تشددي أو استبعادي، يُعد إخلالًا بالأمانة العلمية، كما أن الاستدلال ببعض النصوص دون غيرها ليس من المنهج القرآني الذي يأمر بالنظر الكلي.
قال الله تعالى:
﴿فَخُذُوهُ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ - [البقرة: 63] أي خذوا الكتاب كله، لا بعضه، ولا تنتقوا ما يخدم هواكم.ويُفهم من هذا أن الضمير الحي هو بوابة الحكم على كثير من التصرفات، فلا يجوز لأحد أن يحتكر تفسير النصوص ليُرهب الناس، أو يُحرّم ما أحلّ الله، أو يُحِلّ ما حرّمه الشرع.
ومن المؤسف أن بعض المتشددين يجعلون من أنفسهم أوصياء على أبواب الجنة والنار، يصنّفون الناس ويقيسون الإيمان بأهوائهم، في حين أن رحمة الله وسعت كل شيء.
"أفلح إن صدق"... وصدقي أنني أرى الله أرحم من عباده.
إنني من قوم "أفلح إن صدق"، أؤمن بأن الله رحيم، وأن الصدق مع الله، ولو مع الزلل، أقرب إلى القبول من تصنّع الطاعة مع الغرور، و من أراد أن يتبع طريق التشدد، فليفعل، لكن ليس له أن يُلزم غيره برأيه، أو يفرض تأويله الخاص على الجميع.
أَفْلحَ إنْ صَدَق
مواضيع ذات صلة