لم يكن للثورة السورية حظّ شقيقاتها السابقات من فرص بناء دولتها الجديدة. وُلدت تتحرك على صفيح ساخن من تحولات إقليمية، وعلى رمال متحركة من جبهات مضادة، تشكلها فلول النظام، ودعاة النزعات الانفصالية محلياً، وبناة الثورات المضادة للربيع العربي، وعلى رأسها حلف المقاومة، خاسر النظام اللاحم، وعدوته الذرائعية إسرائيل إقليمياً، والغرب وأميركا دولياً.
جبهات يتوحّد فيها الأعداء ضدها. ويجمعهم خندق العداء الإستراتيجي لقيادتها. وجميعهم يرونها انبثاق صحوة إسلامية. وأشد مَن يغذي التمرد المحلي على هذه القيادة، ويثير القلق الإقليمي والدولي منها، هو حلف المقاومة المخاتل الذي يتقنّع بمناصرة القضايا التحررية العربية، ويخفي تحت هذا القناع حصان طروادة الفرس، متخذاً طريق القدس ذريعة للوصول إلى "فرسنة" عرب ما بين الماءين.
ما زالت إيران تعيش عقدة هزيمة المسلمين لأكاسرتها. ولا تفارقها أحلام الانتقام من العرب المسلمين. وللأسف، بعض الذين يخشون المشروع الفارسي، يلحقهم تخوفهم - من الصحوات الأصولية - بمشاركة إيران في العداء للثورة السورية. ويغرقهم وهم الخوف منها بضبابية رؤى تجعلهم يصوّبون رصاصهم نحو ظهر الثورة السورية، في حين جعلت هذه الثورة من صدرها خندقاً للدفاع عن العرب ضد محور الفرسنة.
أتاح هذا العداء المتحرك فرصة نادرة لإسرائيل، لكي يمارس فيها زعيمها بنيامين نتنياهو طاوسيته العدائية لسورية الوليدة، فصار رأس الحربة التي تتفنن في طعنها، مستدرجاً الغرب وأميركا لدعم مشروعه، باستثارة مخاوفهم من الإسلاموفوبيا، وانتشار المآذن التي يرون فيها نيراناً أشد فتكاً من أسلحتهم الإستراتيجية.
وفكرة المآذن البنادق ليست طارئة على التفكير السياسي الغربي. فهي راسخة من عهد الحروب الصليبية، وكانت رافعتها ومصنعها. ولم تلبث هذه الفكرة أن تحولت إلى عقيدة سياسية في فكر قادة رأي الغرب وأميركا. ولم تكن أهداف إنشاء مراكز الاستشراق منذ توليدها السياسي إلا بناء ثقافة مجابهة للمآذن البنادق التي يرونها في وهمهم تطلق نيرانها على وجود الغرب، وتسعى لنسف حضارتهم بحسب تصوّرهم العدائي التاريخي لها.
ولم يُتَح للعرب أن يغيّروا هذا التشويه الإستراتيجي لصورة وجودهم الإسلامي في أذهان الغرب. ولم يحسنوا استغلال فرصة نادرة أتيحت لهم، حين ظهرت مبادرة فريدة، تجلت بإرهاصات تغيير بنيوي في تفكير قادة الرأي والسياسة في أميركا والغرب. بدأت تعمل بضآلة فاعليتها، على تبديد مخاوف الغرب الوهمية من الإسلاموفوبيا. فقامت مجلة (التايم) الأميركية، ذات التأثير المشهود له، بوضع صورة مئذنة مع يد تحمل بندقية على غلافها، وأرفقتها بتساؤل عريض: (هل يجب على الغرب أن يخاف من الإسلام؟)، ودعمته بتحقيق استقصائي، يدعو إلى تغيير جذري في بنية تفكير ساسة أميركا المعادي تقليدياً وتاريخياً للإسلام. وتلاها عقد الكونغرس لجلسة تناقش تقرير وكالة الاستخبارات الأميركية حول المخاطر الإستراتيجية للإسلام الأصولي، ووصلوا إلى نتيجة مفادها أن الإسلام لا يشكّل خطراً على الغرب ومصالحه.
تبع ذلك افتتاحية في جريدة (نيويورك تايمز) بعنوان (لا شياطين في آسيا الوسطى)، عرّت فيها وهم التخوّف الأميركي من تفتّح الإسلام في آسيا. وجاء في تلك الافتتاحية: (خلال الشهور القليلة الماضية تحررت علاقة أميركا كثيراً مع آسيا الوسطى من تحريض روسيا، والإيديولوجية الشيوعية. لذلك فإنه لا يوجد أي مبرر للاستعجال في تشويه هذه العلاقة واستبعاد فرضية أن هناك تهديداً إسلامياً موحداً يواجه الغرب).
وللأسف، لم تكد هذه المبادرات للتغيير تبلغ نعومة أظفارها حتى داهمت أميركا غزوة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، فأعادت ثوران بركان العداء والكره للعرب والمسلمين إلى أوجه. وساندها في الترويج لحججها ممارسات الحركات الردايكالية. وأسهم تحريض محور الفرسنة في زج قيادة سورية الجديدة في قفص الاتهام بالتطرف، فرمت بها على سندان عداء الغرب وأميركا.
ولم تسعف الظروفُ - المواتية للسياسات المناوئة للحركات الإسلامية - سوريةَ الوليدة أن تتحرر من اتهامها المسبق بالإرهاب، وفُرض عليها أن تقف وسط هذا الطوق المحكم من العداء، مكتوفة القوى بعد أن دمّر سيد الإجرام الوطني مقدراتها على رأس مواطنيها. وتبعته إسرائيل في تدمير بقية مخزونها الدفاعي. ولم يعد بيد هذه الدولة من حيلة إلا الصبر الإستراتيجي. وهو سلاح اتبعته المقاومة المتفرسنة للتنصل من ردع العدوان الإسرائيلي - أيام الرئيس الهارب - عن أذرعتها الأخطبوطية، وفي مقدمتها سورية، بهدف التفرغ للتنكيل بالشعب السوري. وتبنت سورية الوليدة هذا الخيار مرغمة لا بطولة. وقد خبرت فاعليته في تجربتها في تحمل عدوان جيش الأسد الوحشي على حاضنة الثورة في الشمال السوري. وأدى هذا التحمّل في حينه إلى استثارة نقمة حاضنة الثورة على هيئة تحرير الشام والجيش الوطني. وتفاقم غضبها من الانتهاكات اليومية، والسكوت عن الدماء المُسالة على مدار الساعة. لكنها صبرها الإستراتيجي أثمر في تحرير سورية، مما يجعل هذه الإستراتيجية ورقة رابحة في جماهيريتها، لكن ليس لأمد طويل.
والحقيقة التي يجهلها الكثيرون أنَّ أبناء جلدة سورية من "تنويريين" و"علمانيين"، يقومون بدور تاريخي في تحريض حساسية التفكير الغربي تجاه الصبغة الإسلامية لدولتها الوليدة، ومنهم مَن يعاني عقدة خروجه من تاريخ الثورات، لتطرف مواقفه من الربيع العربي، وانتصاره للدكتاتوريات، وعدائه لدور الحركات الإسلامية في تلك الثورات، على رغم إخفاق أغلبها، غير أن الشعب السوري تمترس خلف فقدان ثقته بالعلمانية والتنويرية لتحالفها مع الاستبداد. وبذلك تجد سورية الوليدة نفسها بين مطرقة الداخل وسندان الخارج، وكيفما اتجهت تجد الروم خلفها وأمامها وعلى جانبيها، فعلى أي جنب تميل.