في قلب الشرق السوري، من ضفاف الفرات وتخوم الجزيرة، تنهض أصوات شبابية تنبض بالحياة والوعي، محاولة أن تستعيد الدور، وتصنع من الهامش مركزاً، ومن الغياب حضوراً. إنها مبادرات أهل الرقة والجزيرة التي ظهرت مؤخراً كعلامة فارقة في مسار الوعي العام، والمشاركة الوطنية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لم تعد هذه المبادرات تعبيراً عن حنينٍ ثقافي أو حراك ظرفي، بل تحولت إلى خطوة عملية وناضجة تهدف إلى نقل تطلعات أبناء المنطقة الشرقية إلى الدولة الجديدة، والمساهمة الفاعلة في بنائها على أسس تشاركية وتنموية عادلة.
من أبرز هذه التجمعات التي تشكل نواة لهذا الحراك: "تاج"، وهذه المبادرة يقودها شاب طموح، تحرر من عقدة الانتظار، واختار أن يُشارك لا أن يُهمَّش، أن يُبادر لا أن يُستَبعَد.
لقد أظهر برنامج تجمع "تاج" - وهو اختصار لـ"تجمع أبناء الجزيرة" - مثالاً واضحاً على نضج الرؤية وشمولها، حيث يجمع بين البعد السياسي والثقافي والمجتمعي، ويضع نصب عينيه تحقيق تنمية مستدامة ومشاركة حقيقية في صنع القرار. ويُحسب له أن تمويله ذاتي، قائم على إيمان المؤسسين بواجبهم الأخلاقي تجاه مجتمعهم.
يقف وراء هذه المبادرة الدكتور عصام عبد الحكيم الحمد، أحد أبناء الرقة المنتمين لعشيرة البياطرة، وهي عشيرة كان لها حضور فاعل في بدايات الحراك الثوري.
ينتمي عصام إلى بيتٍ تربّى على العمل الوطني، والده المعارض القديم عبد الحكيم الحمد، وعمه الأستاذ عبد الحميد الحمد، المؤرخ الراحل وأحد رموز الثقافة في الرقة. من هذا الإرث، ينطلق التجمع لا بوصفه كياناً تنظيمياً فحسب، بل كامتداد لقيم ورؤية تناضل من أجل الكلمة الحرة والعدالة.
إننا أمام جيل جديد يخرج من تهميش طويل، محمّلاً برغبة حقيقية في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، بين المركز والأطراف. لا يريد أن يكون مجرد رقم في تقرير، أو ظل في مشهد، بل فاعلاً حقيقياً في بناء مستقبل سوريا.
ولذلك، من الواجب أن نصغي. فكل كلمة تُقال من هؤلاء الشباب باسم منطقتهم، تمثلهم وتمثلنا. كل محاولة لبناء كيان أو تشكيل تجمع أو صياغة خطاب جامع، تستحق الدعم لا التجريح، التقييم لا الاتهام.
علينا أن نؤمن بأن المثقف، والسياسي، والشيخ، والوجيه، والشاب، كلهم شركاء في صياغة المرحلة القادمة، وأن اختلاف الرؤية لا يعني التناحر، بل هو جزء من التعدد الذي يجب أن نحميه ونتعلم إدارته.
من هنا، فإننا نوجه نداءً للحكومة الجديدة، ولصنّاع القرار، بأن تُنصت لهذه المبادرات النابعة من وجدان الناس، وأن تتعامل معها كشريك حقيقي، لا كمصدر قلق. فهذه الأصوات تمثل أملاً في مستقبلٍ أكثر عدالة، وشراكة، واستقرار.
ولكل من يعمل بصمت في الرقة والجزيرة، نقول: أنتم لستم وحدكم. الوطن ينظر إليكم، والتاريخ يكتبكم. لا نريدكم فقط أن تحلموا، بل أن تُنجزوا، وأن تكونوا على قدر ما وعدتم به.
لأنَّ التغيير الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من أبناء الأرض أنفسهم.