: آخر تحديث
أميركا أم الصين:

من الفائز في الحرب التجارية؟

8
8
7

 

عبر التاريخ الإنساني، تقدّمت الحضارة الإنسانية بفضل: المخترع، والمنتج، والتاجر، والمستهلك. ولكل هؤلاء أهمية كبيرة كانت أم صغيرة حسب تأثير كل منهم.

في عصر إنسان الكهف، كان هذا الإنسان البدائي جداً هو المخترع والمنتج والمستهلك (والتاجر أحياناً). فقد كان يخرج للصيد (بعد أن اخترع أدوات الصيد بنفسه) ويعود بحصيلة صيده لاستهلاكها مع أسرته، وأحياناً إذا كان يفيض لديه بعض الطعام، فقد كان يتاجر به عن طريق المقايضة، كأن يقول لجاره في الكهف المجاور والذي يأكل أكثر مما يصطاد ويصبح عنده عجز غذائي، إنه سوف يعطيه نصف الغزال الذي اصطاده والفائض عن حاجته إذا سمح له بأن ينام ليلة مع امرأته!

وعندما توصل الإنسان إلى الزراعة المستديمة، خلق المجتمعات المستقرة حول الأنهار وبدأت الحضارة الإنسانية كما نعرفها اليوم، وظهر المنتج والمستهلك بقوة، وكان المنتج هو المستهلك في معظم الأحيان، حيث كان الفلاح يزرع ما يكفيه لاستهلاكه، وعند وجود فائض عن الاستهلاك ظهرت التجارة، وكان المنتج في معظم الأحيان هو التاجر: عندي نصف "جوال" قمح أعطيه لك مقابل أن تعطيني خروفاً مثلاً، وهكذا.

وعندما ظهرت النقود لأول مرة منذ حوالى 3000 سنة، كانت هذه هي البداية الحقيقية للتوسع في التجارة، وكانت معظم النقود من الذهب أو الفضة أو النحاس...

ومع بداية عصر النهضة الكبرى في أوروبا، ظهرت أهمية المخترعين والعلماء الذين أسّسوا العلوم الأساسية الحديثة، والتي كانت اللبنة التي تأسست عليها كل المخترعات.  

وكانت المخترعات تعبّر عن احتياجات إنسانية، سواء للأكل أم الكساء أم المأوى أم العلاج أو المواصلات أو الزينة.

وتاريخ التقدم الإنساني كله دار حول: كيف يحوّل الإنسان الكماليات، والتي كانت حكراً على الصفوة فقط، إلى ضروريات للجميع.  

فمثلاً، التلفون في القرية أصبح ضرورة للتواصل بين الحكّام وعمدة القرية، وكان يُسمى "تلفون العمدة"، وكان العمدة يحتكر تلك الميزة، وأذكر أني رأيت صورة شهيرة لوالدي في خمسينيَّات القرن الماضي، وهو جالس بجوار التلفون، حيث كنا أول من ركب تلفون في الحي الشعبي الذي كنا نسكن به في القاهرة، وكان هذا التلفون مصدر فخر وتميّز لنا جميعاً.  

اليوم، كل إنسان على وجه الكرة الأرضية لديه تلفون أو أكثر في جيبه.

وأصبح الموبايل ضرورة بشكل مخيف، يعني ممكن الواحد يُصاب بذبحة صدرية إذا ضاع منه تليفونه، أو إنه يفضّل أن تضيع زوجته ولا يضيع تلفونه!

...

اليوم هناك حرب ضارية تجارية أشعلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين أميركا وبقية العالم، ثم ما لبث أن تراجع عن فرض جمارك على العالم لمدة 90 يوماً، واستثنى من ذلك الصين.  

وهناك شبه مزاد بين ترامب والصين، ترامب يرفع جمارك 50 بالمئة، ترد عليه الصين 84 بالمئة، فيرد ترامب 125 بالمئة، وهكذا.  

ولما ارتفعت أصوات الأميركيين (حتى من بين رجال ترامب) تحذر من خطورة تلك الحرب، تراجع عن فرض جمارك على أجهزة الموبايل والكمبيوتر وخلافه من الأجهزة الإلكترونية.

وتعالوا نبحث أساس المشكلة:  
أميركا منذ حوالى 50 عاماً تعاني عجزاً مستمراً في الميزان التجاري، بمعنى أنها تستورد أكثر مما تصدّر، ووصل هذا العجز إلى 900 مليار دولار سنوياً، وهو عجز لا يمكن استمراره بهذا الشكل.  

ووجد ترامب، بصفته رجل أعمال، أن هذا العجز لا يمكن أن يستمر، لأنه رأى بحس التاجر بأنه لو شركته تشتري أكثر مما تبيع، فسوف تفلس قطعاً في يوم من الأيام.  

سبب رئيسي في استمرار عجز الميزان التجاري لمدة 50 عاماً من دون أن تفلس أميركا هو "الدولار"، والذي لا يزال حتى اليوم عملة التداول حول العالم، ولكن حتى هذا الوضع من الممكن ألا يستمر، لظهور قوى كبرى أخرى حول العالم بدأت في محاولة خلق نظام مالي جديد، وبدأت بعض الدول تنضم إلى تكتل بريكس.

وهنا شعرت أميركا بالخطر، وبأن البساط من الممكن أن يُسحب من تحت أقدام الدولار الأميركي، وفي هذا كارثة للاقتصاد الأميركي.

وتعالوا نقارن بين القوتين الأعظم على ساحة هذه الحرب التجارية: أميركا والصين.  

أميركا يبلغ عدد سكانها حوالى أربعة بالمئة من سكان العالم، ولكنها تعتبر أكبر مستهلك في العالم، فهي تستهلك: 20 بالمئة من بترول العالم، وحوالى 23 بالمئة من الموارد الطبيعية والمعادن، و13 بالمئة من مياه الشرب، وأيضاً تفرز 12 بالمئة من نفايات العالم.  

وفي المقابل، أميركا تنتج حوالى 12 بالمئة من غذاء العالم.  

وغير الغذاء، تستورد أميركا من الصين معظم ملابسها، ومعظم أثاثها، ومعظم ألعاب الأطفال، ومعظم مستلزمات البناء، ومعظم الأدوات الكهربائية، ومعظم الأجهزة الإلكترونية، والقائمة طويلة جداً.  

وأدى هذا إلى العجز السنوي الكبير في الميزان التجاري، والذي كما ذكرنا لا يمكن أن يستمر للأبد.

الآن السؤال: من يكسب هذه الحرب التجارية؟ المنتج (الصين) أم المستهلك (أميركا)؟  

القانون الاستهلاكي في أميركا يقول: "الزبون دائماً على حق".  

الزبون (المستهلك) في حالتنا هذه هو أميركا (أكبر زبون في العالم)، وصاحبة المحل (المنتج) هي الصين.  

فهل تستطيع الصين تدليل أميركا لأنها الزبون الذي على حق دائماً؟  

الموضوع هنا ليس بهذه البساطة، مثل زبون في مطعم أو محل ملابس.  

الطرف الأضعف في هذه المعادلة هو من يحتاج للطرف الآخر أكثر.  

أميركا تعتبر أكبر زبون عند الصين، التي تصدّر إلى أميركا من 12 بالمئة إلى 15 بالمئة من صادراتها، لذلك فإن أميركا زبون لا يمكن تجاهله، فهناك مصانع في الصين تقوم بتصدير كل إنتاجها إلى أميركا.  

وفي المقابل، أميركا تعتمد إلى حد كبير على المنتجات الصينية الرخيصة، والتي لا يمكن للشركات الأميركية أن تنافسها، لذلك فإن معظم مصانع النسيج في ولاية جورجيا قد أُغلقت، ومعظم مصانع الأثاث في ولاية نورث كارولينا قد أُغلقت، والقائمة طويلة جداً.  

تدخل المحلات التي تبيع مواد البناء، قلما تجد منتجات صناعة أميركية، حتى تلك المنتجات الأميركية القليلة أصبحت تضع العلم الأميركي على المنتج لكي تجذب الزبون الأميركي.

وأنا أرى أن أميركا في حاجة إلى الصين، وأن الصين في حاجة إلى أميركا، وأعتقد بأن العقل ومصلحة الطرفين سوف تعلو فوق العناد والكبرياء. لأنه عادة، الكل يخسر في الحروب.

وبهذه المناسبة، لا بد أن أختم بنكتة شهيرة: "يقال إن وزارة التجارة الأميركية قد انزعجت من قلة المنتجات الأميركية، لذلك قرروا عمل حملة وطنية كبرى لتشجيع المواطن الأميركي على شراء المنتجات الأميركية تحت شعار "كن أميركياً واشترِ صنع في أميركا"، وقامت الوزارة بالتعاقد مع شركة تسويق شهيرة للقيام بحملة "صنع في أميركا".  

وفي أول اجتماع لهذه الشركة مع مندوبي وزارة التجارة، قرروا أنه من الأرخص والأسرع صناعة لافتات وكتيبات حملة "صنع في أميركا" الكبرى... في الصين!"

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.