في عمق الغموض الغربي المظلم، وخارج كل الأطر الدينية والتقليدية، نشأت جماعة (الزوايا التسع) Order of Nine Angles، ليس كحركة دينية أو طائفية، بل ككائن ميتافيزيقي انبثق من رحم العدم، يقدّس الفوضى، ويمارس العنف بوصفه طقساً وجودياً ، حركة لا يمكن حصرها ضمن نطاق الشيطانية التقليدية، ولا اختزالها بحركات النازية الجديدة؛ هي مزيج متطرف من السحر الأسود، الفلسفة الهرمسية، الغنوصية المنحرفة، وعبادة الذات المتوحشة.
تأسست في بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، ويُنسب تأسيسها إلى (ديفيد ميات) وهو شخصية زئبقية مرّت بتحولات عقدية حادة، من النازية إلى الشيطانية، ثم إلى الإسلام المتطرف، قبل أن تتوارى خلف ستار كثيف من الغموض. ميات، الذي يُشتبه بكونه العقل المدبر وراء العديد من النصوص الجوهرية للجماعة، كان يرى في الزوايا التسع مشروعاً لما يسميه (التطور البشري الوحشي) حيث يتم انتقاء الصفوة القادرة على تجاوز الأخلاق والعواطف من خلال القتل، والخداع، والتضحية بالآخرين.
تعتمد الجماعة في فلسفتها على تسع مراحل أو زوايا روحية وكونية، يمر بها الفرد للوصول إلى ما يسمونه (التحول إلى ما بعد الإنسان) ، حيث لا وجود للخير والشر في عقيدتهم، بل هناك القوي والضعيف، القاتل والمقتول ولا مكان للضعف، ولا حرمة للدماء ، الطقوس تتراوح بين سفك الدماء والتجوال في الغابات، وتقمّص الشخصيات القاتلة داخل المجتمع وهم ليسوا طائفة تعبد الشيطان كرمز، بل كقوة حقيقية يجب خدمتها عبر أعمال إرهابية وفوضى خالقة.
من أبرز طقوسهم ما يُعرف بـ (الانعزال الظلامي) حيث يُطلب من العضو الجديد الانخراط في عزلة كاملة في أماكن موحشة، بعيداً عن المجتمع، لسبر أغوار الجانب المظلم في ذاته وهناك طقس (الاختبار القتالي) الذي قد يتضمن ارتكاب جريمة قتل، أو الالتحاق بجماعة متطرفة بغرض تنفيذ عمليات تخريبية من الداخل. القاعدة الذهبية لديهم ليست (افعل ما شئت) بل (أفعل ما يجعل منك سيداً على الموت نفسه)
هذا التنظيم، ورغم ظهوره في الغرب، ليس بعيداً عن التغلغل في بيئات أخرى. العديد من تقارير الاستخبارات الغربية كشفت عن وجود روابط بين أعضاء O9A ومعتنقي الإسلام الراديكالي داخل السجون الأوروبية، بل إن بعضهم مرّ عبر داعش ثم عاد إلى الفكر الشيطاني عبر بوابة الزوايا. فالعدو واحد: العالم الذي لا يفهم العنف بوصفه تجلياً للقوة الكونية.
وهنا يبدأ الشق الأخطر في هذا التحليل: هل نحن أمام بديل مستقبلي لداعش؟ أليس هذا التنظيم الخفي، الذي يقدّس القتل والخداع والتنظيم الخلوي، يمتلك كل المقومات التي امتلكها داعش ؟ بل وربما أكثر شراسة وذكاء؟ الزوايا التسع ليست مشروع دولة ولا تنظيماً دينياً ولا حتى مافيا منظمة ، هي شبكة لا مركزية، تعمل عبر ما تسميه (النيكسيون) أي الخلايا، دون حاجة لزعيم واحد. هي فكرة أكثر من كونها قيادة. ومتى ما تحالفت الفكرة مع الذئاب المنفردة، يصبح الإرهاب متفلّتاً من كل خرائط المكافحة التقليدية.
ما يزيد من خطورتها هو قابليتها للاختراق العكسي، إذ أن بعض أعضائها تمكّنوا من التسلل إلى الحركات الدينية الراديكالية، خاصة في أوروبا، وتغذية مسارات التطرف الديني بنَفَسٍ شيطاني محض، يقوم على كراهية البشرية لا الغرب فقط. إذا كان داعش قد سوّق للقتل بوصفه طريقاً إلى الجنة، فإن الزوايا التسع تسوّق القتل بوصفه طريقاً إلى تجاوز الطبيعة البشرية وهنا مكمن الرعب….!
بعض التقارير الأمنية حذّرت من وجود أدبيات O9A في حقائب شبان اعتُقلوا على خلفيات إرهابية في ألمانيا وبريطانيا، ووجود رسائل تشجيع على تنفيذ عمليات فردية باسم (التطور الهرمي للبشر) بما يشير إلى ميل الجماعة لأسلوب (الذئب الوحيد) كما فعل أنصار داعش بعد سقوط الخلافة المزعومة.
إننا أمام لحظة فاصلة. لم يعد الإرهاب مقيّداً بشعارات دينية أو دولية، بل أصبح يمتلك جسداً مشوَّهاً جديداً ، لا يؤمن بفتاوى ولا بحدود ولا بلغة مشتركة…
الزوايا التسع ليست بديلاً عن داعش فحسب، بل هي إعادة إنتاج للشر، بلسان فلسفي ميتافيزيقي، يستمد طقوسه من الظلام لا من السماء. هذا التنظيم قد يكون الأكثر قدرة على الاستمرار، لأنه غير مرئي، غير مرتبط بجغرافيا، ولا يطلب من أتباعه شيئاً سوى أن يتحوّلوا إلى وحوش خفية.
السؤال الخطير الذي يطرح نفسه: ماذا لو التقى أحد أمراء الحرب العابرين للحدود مع أحد منظّري الزوايا التسع في سجن أوروبي؟ ماذا لو جرى هذا التزاوج بين فوضى الشيطان وفوضى السلاح؟ عندها لن نرى فقط عودة داعش، بل بعثاً جديداً للإرهاب، أكثر شراسةً، أقل عقلانية، وأشد استحالة على الاقتلاع.
إذا كانت داعش قد ارتدت العباءة والسيف، فإن الزوايا التسع قادمة برداء الظلام، بلا راية، بلا وطن، بلا حدود… ولكن بعقل أكثر ظلمة من أي ماضٍ عرفناه.