: آخر تحديث

صراع العقيدة والسياسة في سوريا

5
6
6

شهدت سوريا تاريخيًا تفاعلًا معقدًا بين السياسة والعقيدة، بدءًا من المعتقدات القديمة إلى تأثير الإسلام في العصور الوسطى، ثم النظام الملّي العثماني، وأخيرًا فترة الانتداب الفرنسي. وبعد الاستقلال، واجهت سوريا تحديات في بناء هوية وطنية موحدة، حيث صعدت القومية العربية ثم استخدم حزب البعث الدين لأغراض سياسية، مما أدى إلى ظهور حركات إسلامية. ومن هنا تحولت العقيدة إلى أداة صراع في سوريا، حيث أدت الطائفية السياسية والخطاب الديني المتطرف والتدخلات الخارجية إلى تأجيج الصراعات، خاصة خلال الثورة السورية. ولتحقيق الاستقرار، يجب السعي نحو الحوار والمصالحة، وفصل الدين عن الدولة، وبناء دولة مدنية شاملة، مع الاستفادة من تَجَارِب دول أخرى.

يشهد تاريخ سوريا تفاعلًا معقدًا بين الدين والسياسة، فسوريا عبر تاريخها الطويل، كانت نقطة التقاء للعديد من الحضارات والأديان، مما أدى إلى تشكيل نسيج اجتماعي متنوع. إذ كانت المعتقدات الدينية متداخلة بشكل كبير مع الحياة السياسية في العصور القديمة، حيث كان الحكام غالبًا ما يُعتبرون ممثلين للآلهة. ومع ظهور الإسلام، أصبح الدين عاملاً مؤثرًا في تشكيل الهوية والثقافة السورية، وتأثرت الأنظمة السياسية والقوانين بالأحكام الإسلامية. وخلال الحكم العثماني، تم اعتماد نظام "الملل"، الذي سمح للمجموعات الدينية بإدارة شؤونها الخاصة، ولكنه أيضًا عزز الانقسامات الطائفية. وفي فترة الانتداب الفرنسي، أدت السياسات الاستعمارية إلى تغيير موازين القوى بين المجموعات الدينية، مما زاد من التوترات. وفي ظل صعود القومية العربية ثم استخدام الدين لأهداف سياسية، واجهت سوريا تحديًا في بناء هوية وطنية موحدة، في ظل التنوع الديني والعرقي، فظهرت القومية العربية كمحاولة لتجاوز الانقسامات، من خلال التركيز على اللغة والثقافة المشتركة.

عندما وصل حزب البعث إلى السلطة، حاول في البداية تبني أيديولوجية علمانية، ولكنه لاحقًا بدأ في استخدام الدين لأغراض سياسية. هذا الاستخدام الانتقائي للدين أدى إلى ردود فعل من قبل الحركات الإسلامية، التي سعت إلى زيادة دور الدين في الحياة العامة. حيث تحول الدين إلى أداة صراع، خاصة خلال الثورة السورية، وتم استغلال الانتماءات الدينية لتأجيج الخلافات وتبرير العنف. إذ لعب الخطاب الديني المتطرف دورًا في تعبئة الناس وإثارة الكراهية، وتحويل الخلافات السياسية إلى صراعات طائفية. وزادت من حدة الانقسامات التدخلات الخارجية من قبل القوى الإقليمية والدولية، حيث دعمت أطرافًا بناءً على انتماءاتهم الطائفية. وأصبح الانتماء الديني سببًا للاستهداف والعنف، مما أدى إلى تعميق الانقسامات. ولتجاوز الانقسامات، يجب السعي نحو حوار وطني شامل، يجمع السوريين من مختلف الخلفيات، وبناء دولة مدنية تفصل بين الدين والدولة، وتضمن حقوق جميع المواطنين بالتساوي، هو أمر ضروري لتحقيق الاستقرار. ولتحقيق ذلك، لا بد من الاستفادة من تَجَارِب دول أخرى نجحت في إدارة التنوع الديني. وهذا يمكن أن يقدم دروسًا قيمة لسوريا والسوريين، خاصة أن بناء الثقة وتحقيق المصالحة وتغيير العقليات كلها أمور تتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين.

ختامًا، لا بد أن ندرك بعمق، وفي خضم رحلتنا عبر صفحات التاريخ السوري، أن العلاقة بين السياسة والعقيدة ليست مجرد تفاعل عابر، بل هي نسيج متشابك نسج خيوط مصير البلاد عبر مختلف المراحل، لقد رأينا كيف أثرت هذه العلاقة بشكل مباشر على الوحدة الوطنية، والاستقرار السياسي، ومستوى الحريات والحقوق التي يتمتع بها المواطنون، إن الدرس المستفاد من هذا التاريخ يحتم علينا أن ندرك أن بناء مستقبل مستقر لسوريا يتطلب فهمًا عميقًا لهذه العلاقة المعقدة. ولا يمكننا تجاهل التأثيرات التاريخية للعقيدة على السياسة، ولا يمكننا أن نغفل عن الدور الذي لعبته في تأجيج الصراعات وتعميق الانقسامات، لذا فإن الخطوة الأولى نحو بناء مستقبل أفضل تكمن في الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي الذي يميز المجتمع السوري. ولتحقيق ذلك، يجب أن نسعى نحو بناء دولة مدنية تحترم التنوع وتضمن الحقوق للجميع. وهذا يعني فصل الدين عن الدولة، وتأسيس مؤسسات حكومية وقضائية محايدة تضمن المساواة أمام القانون. كما يعني أيضًا تطوير مناهج تعليمية تعزز قيم التسامح والتعايش السلمي. إن الطريق نحو بناء دولة مدنية في سوريا لن يكون سهلاً، ولكنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى الاستقرار والسلام. يجب أن نتجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية، وأن نبني جسور الثقة والتفاهم بين جميع مكونات المجتمع السوري. وفي نهاية المطاف، فإن مستقبل سوريا يعتمد على قدرتنا على فهم العلاقة بين السياسة والعقيدة، وعلى استعدادنا لبناء دولة تحترم التنوع وتضمن الحقوق للجميع. هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهنا، ولكنه أيضًا الفرصة الأكبر لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.