: آخر تحديث

أجا وسلمى… أسماء لم تُكتَب وحكايات لم تُروَ

6
8
7

 

 

أجا وسلمى، ليست مجرد ملامح صخرية في شمال الجزيرة العربية، بل هما شاهدان جيولوجيان على مرور حضاراتٍ بادت، واندثرت، ثم عاد الزمان ليكشفها حجراً بعد حجر….  

في حائل حيث يحتضن الصمت الجبال، تهمس الصخور بأسرار حضاراتٍ ضاربة في القِدم، لم تأخذ حقها من الضوء، لكنها نقشت وجودها في صفحات التاريخ قبل أن تمحوه الرمال وتختزنه الجبال.  

تشير الأدلة الأثرية الحديثة إلى أن المنطقة التي تمتد بين جبلي أجا وسلمى كانت مأهولة منذ العصر الحجري الحديث (Neolithic period)، أي قبل أكثر من 10,000 سنة، عُثر على أدوات حجرية وصوانيات تعود لتلك الحقبة في مواقع مثل جُبّة وراطا والمنجور، وهي مواقع ترجع إلى الإنسان الأول الذي استوطن هذه المنطقة بعد أن كانت مروجاً خضراء في عصور مطيرة مرت بها الجزيرة العربية، وتُعد هذه المواقع من أقدم الشواهد على الاستيطان البشري في شبه الجزيرة، بل إن منظمة اليونسكو اعترفت بها كجزء من التراث الإنساني العالمي منذ عام 2015.  

لكن ما يثير الإعجاب هو أن تلك الآثار لا تشير فقط إلى وجود بشري بدائي، بل إلى حضارات مصغّرة تركت نظماً اجتماعية وإشارات رمزية معقدة، النقوش الصخرية الموجودة في سفوح أجا وسلمى لا تُصوّر فقط أنشطة الصيد أو رسوم الحيوانات، بل تُظهر طقوساً روحية، وتنظيمات شبه دينية، ما يدفع بالباحثين للاعتقاد بوجود أنماط اعتقاد وقيادة روحية في تلك العصور.  

في العهد التالي، مرّت عبر هذه الجبال حضارة الثموديين، الذين عاشوا في شمال الجزيرة ما بين القرن الثامن قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي. وهم قوم عرب أقحاح ذُكروا في القرآن، وقد خلفوا نقوشاً كثيرة فيما يُعرف بـ (الخط الثمودي)، جبال أجا وسلمى إلى جانب جبال حِمَى وتيماء، امتلأت بنقوشهم التي تُظهر تفوقهم في اللغة والنحت، وقدرتهم على التعبير عن مشاعر الحب والفقد والعبادة عبر الحروف المنحوتة، في وقتٍ لم تكن فيه الكتابة قد انتشرت إلا في كبرى الحضارات.  

ثمّ مرّت من هناك الحضارة النبطية، في مرحلة امتدت من القرن الثالث قبل الميلاد وحتى أوائل القرن الثاني الميلادي. الأدلة على التواجد النبطي في حائل ليست غزيرة كما في البترا ومدائن صالح، لكنها واضحة في النقوش التي مزجت بين الخط النبطي والثمودي، مما يدل على امتزاج حضاري وثقافي حدث في تلك الجبال. يعتقد الباحثون أن القوافل النبطية استخدمت هذه الجبال كعلامات طريق ومحطات للراحة في مسار درب البخور القديم، الذي كان يربط جنوب الجزيرة ببلاد الشام عبر الحجاز.  

تدل النقوش والرسوم المكتشفة مؤخراً في منطقة الشويمس – التي تقع جنوب جبال سلمى – على وجود نشاط بشري متطور في العصور الحجرية، حيث تظهر رسومات لما يشبه (المواكب) و(مشاهد ذبح) مما يُشير إلى بدايات الممارسات الطقسية والشعائرية، وهي إحدى سمات التحضّر المبكر. ويشير علماء الآثار إلى أن هذه المنطقة قد كانت مسرحاً لحضارة مستقلة أو فرعٍ من حضارةٍ أوسع اندثرت ولم تدوَّن.  

اللافت أن جيولوجيا الجبال لعبت دوراً محورياً في حفظ هذه الحضارات. فجبل أجا يتكوّن من صخور الجرانيت الصلبة التي قاومت عوامل التعرية لآلاف السنين، بينما جبل سلمى، المكوّن من البازلت والتكوينات البركانية القديمة، احتفظ بنقوشه على جدران ملساء بفعل الحمم المنصهرة المتصلبة، ما مكّن من دراسة تسلسلات النقوش عبر الطبقات الصخرية نفسها، وهو أمر نادر في المواقع الأثرية المفتوحة.  

الموقع الجغرافي لأجا وسلمى، في منتصف الطريق بين اليمامة وتيماء، جعل منهما نقطة عبور استراتيجية للطرق التجارية والدينية والعسكرية. فمن هناك كانت تمر القوافل من الجنوب إلى الشمال، وتستريح الجيوش وتُخزَّن المؤن، وتُنقش الرسائل على الصخور. وقد مرّ بها العرب البائدة والعرب العاربة، من عاد إلى ثمود إلى طسم وجديس، ثم اندمجت مع القبائل الطائية عندما استوطنت حائل لاحقاً، وصار الجبلان رمزين أدبيين في الشعر الجاهلي، لا سيما في شعر حاتم الطائي الذي يُنسب إليه الاستقرار في سفوح أجا.  

ولا يُمكن إغفال أن بعض النظريات الحديثة تشير إلى احتمال وجود حضارة مندثرة ما قبل الطوفان قد تكون سكنت المنطقة في عصرٍ جيولوجي مختلف، حين كانت الجزيرة العربية خصبة وممطرة. هذه النظرية، رغم جدليتها، تستند إلى كثافة الآثار الموجودة في المنطقة، وتشابه بعض الرسوم مع مثيلاتها في صحراء الجزائر وواحات شمال إفريقيا.  

اليوم، يتعامل الباحثون مع جبال أجا وسلمى كمختبر مفتوح لتاريخ الجزيرة العربية، حيث يُعاد بناء ماضيها الصامت من خلال تحليل أنماط الرسوم، وتحديد مواقع النجوم المنقوشة، واستقراء العلاقات بين النقوش والحركات القبلية المعروفة…  

إنها ببساطة صفحات من حضاراتٍ نسينا أسماءها، لكن الجبال تذكّرت. وفي زمنٍ يتسابق فيه العالم لاكتشاف ماضيه، تقف أجا وسلمى بكل هيبتهما، تهمسان في آذان العارفين: نحن البداية، ونحن الشاهد الباقي حين تنطفئ كل الحضارات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.