: آخر تحديث

التقية الفكرية لدى التيارات المتطرفة

2
2
2

فيصل الشامسي

تمثل التقية الفكرية أحد أخطر أساليب التسلل الأيديولوجي التي تعتمدها التيارات المتطرفة لهدم الدولة الوطنية من الداخل، إنها ليست مجرد ازدواج في الخطاب، بل استراتيجية منظمة تقوم على إخفاء النوايا الراديكالية تحت غطاء الاعتدال تارة، وتارة أخرى تحت شعار الوطنية والإصلاح والعمل الخيري، مستغلة الثغرات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات المستقرة.

لقد تحولت هذه الممارسة إلى سلاح ناعم يوازي في خطورته الإرهاب العنيف، لأنه يعمل في الظل، ويعيد تشكيل الوعي الجمعي ببطء، دون أن يحدث ضجيجاً يلفت الانتباه، وفي ظل التحولات الدولية، وتصاعد التحديات الفكرية العابرة للحدود، أصبحت مواجهة التقية الفكرية جزءاً من الأمن الفكري الوطني، ومن أدوات صون الهوية والاستقرار السياسي والاجتماعي للدولة الوطنية.

تعتمد التيارات المتطرفة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية وحلفاؤها، على 4 مراحل رئيسية في ممارسة التقية الفكرية، حيث تبدأ من خلال مرحلة التأسيس الناعم، بإنشاء جمعيات خيرية وتعليمية وثقافية وتعليمية تروج لخطاب وطني أو إصلاحي ظاهري، وتقدم نفسها كمشروع معتدل في المجتمع.

وتأتي مرحلة التغلغل، كمرحلة تالية تنتقل عبرها الجماعة إلى اختراق المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية وغيرها من المؤسسات الناعمة، مستخدمة رموزاً دينية أو اجتماعية ذات قبول شعبي لتضليل الجماهير وإضفاء الشرعية على مشروعها.

وتلحقها مرحلة التمكين، كمرحلة ثالثة تكثف فيها نشاطها السياسي والاقتصادي والإعلامي لتوسيع دوائر النفوذ داخل المجتمع والدولة، وتبدأ ببناء "ولاءات بديلة" تتجاوز الدولة الوطنية.

وهنا تأتي المرحلة الحاسمة، مرحلة الانقضاض، حيث إنه بعد ترسيخ نفوذها، تبدأ في تقويض شرعية الدولة تدريجياً، عبر بث الشك في مؤسساتها ونظامها السياسي، وإيجاد حالة استقطاب مجتمعي تضعف الوحدة الوطنية.

هذه المراحل ليست عشوائية، بل هي هندسة فكرية متدرجة تهدف إلى تحويل المجتمع من الداخل، وتوظف الخطاب الناعم سواء أكان دينياً أم عاطفياً كأداة ناعمة لتمرير التطرف بأقنعة الاعتدال والوطنية أو الإصلاح.

تعتمد التقية الفكرية على استغلال البعد النفسي والعاطفي للأفراد، إذ تقدم خطاباً يتلاعب بالمفاهيم الدينية والإنسانية: "الدفاع عن القيم"، "الإصلاح"، "مقاومة المتطرفين" وهي في الأصل أساس التطرف والإرهاب، حيث إن هذه اللغة تنجح في جذب الفئات المتعاطفة مع القضايا الأخلاقية أو المظلومية.

كما تلعب الجماعات المتطرفة على الحاجة إلى الانتماء، فتوهم الأفراد أنهم جزء من مشروع "معتدل" أو "إصلاحي"، بينما هم في الواقع أدوات ضمن مشروع أيديولوجي مغلق،

وتبرز خطورة هذه التقية حين يعاد توجيه الولاءات من الوطن إلى الجماعة، ومن الدولة إلى التنظيم، وهو ما عانت منه دول عدة حين سمحت للإخوان وحلفائهم بالتمدد داخل مؤسساتها تحت لافتات العمل الاجتماعي والتربوي.

يعد نموذج جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية أوضح مثال تاريخي على توظيف التقية الفكرية لأغراض سياسية وأيديولوجية، فقد نجحت الجماعة لعقود في تقديم نفسها للعالم كـ "حركة إصلاحية" تعمل ضمن الأطر القانونية، بينما كانت تخفي تحت هذا القناع مشروعاً سياسياً وأيديولوجياً شمولياً يسعى لإقامة نظام بديل يقوم على الولاء للتنظيم لا للوطن.

مارست الجماعة هذا الأسلوب من خلال إنشاء مؤسسات تعليمية وخيرية ذات أهداف ظاهرية نبيلة، لكنها تحولت إلى منابر للتعبئة الأيديولوجية، واستغلال الخطاب الإعلامي والرقمي لإظهار صورة معتدلة، بينما تبث في الخفاء رسائل تعبئة عقائدية ضد الدولة الوطنية.

وحرصت على بناء شبكات اقتصادية موازية تمنحها استقلالية مالية، وتستخدم في تمويل أنشطتها السرية، هذا النموذج يوضح كيف يمكن للتقية الفكرية أن تنتج نفوذاً موازياً للدولة يقوض شرعيتها ببطء، حتى من دون استخدام السلاح. التعامل مع هذا التهديد يتطلب تحولاً نوعياً في أدوات المواجهة، فالحرب الفكرية تواجه بالوعي الفكري والتحليل الاستباقي والوقاية. حيث تأتي أولى الخطوات بتطوير منظومات ذكاء فكري وتحليل خطاب قادرة على رصد التناقض بين الأقوال والأفعال، واكتشاف الخطابات المزدوجة في مراحلها الأولى.

وتعقبها مرحلة تعزيز التعاون بين المؤسسات التخصصية في الرصد والتحليل ومراكز الفكر والجامعات لتكوين بنوك معرفة فكرية تكشف الأنماط السلوكية المتكررة لهذه التيارات المتطرفة، وبناء آليات ومنظومة مراقبة ذكية للمؤسسات الناعمة، الخيرية والتعليمية والدينية، والمنصات الإعلامية وغيرها لضمان توافقها مع التوجهات الوطنية.

حيث إن نجاح الدولة في كشف التقية الفكرية لا يعتمد فقط على الأدوات الأمنية، بل على التحليل العميق للشبكات الفكرية والاجتماعية التي تغذيها.

التحصين يبدأ من التعليم، فالمناهج التي تعزز التفكير النقدي، والانتماء والولاء الوطني، والاعتدال، تشكل خط الدفاع الأول ضد الخطاب المزدوج، كما أن الإعلام الوطني يجب أن يتجاوز دور التوعية السطحية إلى كشف التناقضات والخداع الخطابي عبر التحقيقات التحليلية.

وتعد النخب الفكرية الواعية، والمؤسسات الوطنية، والوعي الفردي والمجتمعي ضرورة لتفكيك الخطابات المموهة التي تتبناها الجماعات المتطرفة. كما أن توظيف التكنولوجيا التحليلية في رصد الحملات الرقمية المضللة بات من أدوات الأمن الفكري الحديثة، فالتحدي اليوم لم يعد في مواجهة الإرهاب المسلح فقط، بل في التصدي للفكر المتخفي الذي يسعى إلى إعادة صياغة الوعي الجمعي من الداخل.

إن التقية الفكرية تمثل "الإرهاب الصامت" الذي يتسلل إلى الوعي قبل أن يظهر في الفعل، ونموذج الإخوان المسلمين يثبت أن الجماعات التي تتقن هذا الأسلوب لا تسعى للإصلاح كما تزعم، بل لإعادة هندسة المجتمع وفق أيديولوجيتها الخاصة، لذلك فإن من الضروري دمج الأمن الفكري بأدوات البحث العلمي والتحليل الاستراتيجي، لتتمكن الدولة الوطنية من بناء منظومة استباقية تكشف الأقنعة قبل أن تتحول إلى نفوذ فعلي.

الحفاظ على الوطن لا يتحقق فقط بحماية الحدود، بل بحماية العقول من التلاعب، وبصون الهوية من التشويه، وبفضح الأقنعة التي تتستر خلف الشعارات البراقة لتخفي مشاريع الهدم والانقسام؛ الحذر من التقية الفكرية وأساليبها الإقصائية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد