الشماعية… كلمة في اللهجة العراقية تحمل أصداء نفسية واجتماعية عميقة، أصل التسمية يعود إلى (الشمّاع) وهو صانع الشمع، نسبة إلى مهنة كانت تُمارس في تلك المنطقة من بغداد التي أُنشئ فيها لاحقاً مستشفى للأمراض النفسية، ومع مرور الزمن التصق الاسم بالمستشفى ذاته، ليتحول تدريجياً من دلالة مهنية إلى إشارة اجتماعية تُستخدم للتهكم أو التحقير، حتى غدت (الشماعية) مرادفاً شعبياً لكلمة الجنون!
ولكن أي جنون هذا؟ وهل الجنون في من دخل المصحة، أم في مجتمع أنكر حاجته إليها؟
في زاوية معزولة من بغداد، تقف (الشماعية) لا كمجرد مستشفى للأمراض النفسية، بل كرمز اجتماعي صاخب بالصمت، الكلمة وحدها كفيلة بإثارة موجة من التهكم، أو الخوف، أو حتى الارتياح الغريب.
وكأنَّ الجنون حين يُعلن رسمياً، يصبح أهون من العيش في اضطراب بلا تشخيص، فماذا يعني أن تُوصم بشماعي في مجتمع يئنّ تحت كمٍّ هائل من القهر السياسي، والاجتماعي، والروحي، دون أن يعترف بذلك؟
لم تعد الشماعية مجرد جغرافيا، لقد تحوّلت إلى استعارة كاشفة عن فشلنا الجمعي في احتواء المختلف، ورفضنا الاعتراف بأننا نحتاج – جميعاً – شكلاً ما من العلاج النفسي، صارت الكلمة سلاحاً لغوياً نشهره في وجه من يتجاوز المعايير غير المعلنة للسلوك. وكأننا نقول: لا تخرج عن النسق، لا تتكلم أكثر من اللازم، لا تفكر بعمق، لا تسأل، لا تصرخ، لا تبكِ علناً… وإلا فالوجهة معروفة.
في مجتمعات تُحاصرها الحروب، ويُقمع فيها التعبير، وتُختزل فيها الهُويات، يصبح الجنون شكلاً من أشكال المقاومة أو الانسحاب. الشماعية، إذاً ليست مستشفى بالمفهوم المهني، هي من حدود الخيال الاجتماعي، الحاجز الذي يُفصل فيه المقبول عن المرفوض، الساكن عن الصاخب، العاقل عن القلق!
إقرأ أيضاً: العباءة الممزقة: من سيرث القاعدة في زمن التصدع؟
ولعلّ السؤال الحقيقي ليس: من يدخل الشماعية؟ بل: من بقي خارجها رغم استحقاقه الدخول؟
هُناك بعدٌ نفسي مرعب في تعاملنا مع المصحات العقلية، وكأننا نتعامل مع مرآة نخشى النظر فيها. المصاب النفسي يُحيلنا مباشرة إلى هشاشتنا الداخلية، إلى فكرة أن العقل ذاته ليس حصناً، بل كيان هشّ قابل للانهيار بصمت. ولهذا، نُفضّل أن نُبعد المجنون، أن نُصمت صراخه، لا لشيء، بل لأنه يصرخ بالنيابة عن أشياء فينا لا نجرؤ على البوح بها.
الدلالة الأخطر في ثقافة (الشماعية) بحسب المجتمع العراقي، هي هذا الربط المَرَضي بين الاختلاف والجنون. من يتحدث بطريقة غير مألوفة، من يُظهر مشاعر زائدة، من يشكك في الثوابت التي صنعها متنفذون ومن يطرح أسئلة لا تُعجب السائد… يُرمى مباشرة بتهمة الجنون. وكأن العقل الجمعي نفسه قد أقام محكمةً لا تُخطئ، تُدين كل من يقترب من حافة التفكير الحرّ.
وربما لو تأملنا قليلاً، لاكتشفنا أن الشماعية هي انعكاس لمجتمع يخاف من أن يرى نفسه على حقيقته: مجتمع خائف، مجروح، مرعوب من الانهيار، لكنه يلبس قناع الطبيعي والعقلاني والمتماسك قسراً!
لذلك حين تظهر أعراض التشقق، نرمي بها على من هو أضعف، أو على من فقد القدرة على التمثيل.
في مجتمعاتنا، ما زال من الأسهل أن يُوصم الإنسان بالجنون من أن يُصغى إليه. ما زلنا نُفضل أن نُعلّق اضطراب الأرواح على شماعة الفرد، بدل أن نتساءل: ماذا عن البيئة؟ ماذا عن الأسرة؟ عن الحروب؟ عن الطفولة؟ عن الخوف المزمن؟ عن القمع؟ عن الضغوط؟ بل ماذا عن نظام كامل يُجبرك أن تتظاهر بالعافية في وطن عليل؟
إقرأ أيضاً: سَحَرَةُ الظِلّ: جمهورية الطلاسم الحوثية
الشماعية بهذا المعنى ليست مصحة… بل سجن صحي نُودع فيه من لا نريد رؤيته. وهنا يكمن الألم الفلسفي العميق: نحن لا نعالج المجنون، بل نعزله. لا نواسيه، بل نُشيطنه. وكأننا نقول له: لا تُربكنا بتجليات ألمك، بل تحمّلها بصمت أو اختفِ.
ولو وسّعنا العدسة قليلاً، سنرى أن الشماعية هي انعكاس مصغّر لعالم عربي كامل يعاني من اضطرابات نفسية بلا اعتراف. دول ترفع شعارات العظمة، فيما شبابها ينهارون داخلياً، في صمت… نساء يتحملن أعباء قاهرة باسم العيب… رجال يعيشون انكساراتهم ببطولات وهمية… والنتيجة؟ شعب بأكمله يُخفي الشروخ خلف قشرة التماسك، ويُسكت الداخل بتخدير مؤقت، إلى أن ينفجر كل شيء دفعة واحدة.
الشماعية إذاً ليست للمرضى فقط، بل هي صرخة من خلف الجدران تقول لنا جميعاً: أنتم لستم بخير!
وكل من يسخر من المجانين، أو ينعت الآخرين بالشماعية تهكماً، إنما يخاف من شيء داخله… يخاف من لحظة يتكشّف فيها أن الجنون قد لا يكون في من فقد السيطرة، بل في من توهّم أنه يملكها طول الوقت.
في النهاية، من لا يسمع صوته الداخلي يصرخ… قد يجد نفسه هناك، لا لجنونه، بل لصمته الطويل.