: آخر تحديث

هل كان انتحاراً.. أم لُغز اغتيال؟

2
2
2

في 27 يوليو/تموز عام 2007 سقط رجل صدفة، من شرفته في الطابق الخامس لمبنى البناية رقم 24 بشارع كارلتون هاوس القريب من القصر الملكي، في ذلك الحيّ الراقي من مدينة لندن، حيث تقيم الشخصيات المهمة، والمزوّد دائماً بالكاميرات الكاشفة لكامل التفاصيل.. ولكن للصدفة أيضاً كانت الكاميرات مُعطلة.
مات الدكتور أشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وزوج ابنته منى.. مات الرجل اللغز الذي أثار بموته ألف سؤال، هل هو «الملاك الحارس» كما كانت تسميه الصحف العبرية وأعظم جاسوس في القرن العشرين؟ أم هو المواطن المصري الذي خدم بلاده وعرّض حياته للخطر من أجل وطنه؟ لقبته إسرائيل أيامها ب«الجاسوس الخارق».. ونصّبته بلاده بطلاً قومياَ. بينما بقيت الدولة العبرية تتغنى بإخلاصه لها.. وبقي اللغز يُربك ويُحيّر كل من يبحث في سيرة الرجل المُتناثرة في الكتب والمقالات والمُذكرات التحليلية التي تناقض بعضها. فبينما تحدث الكاتب محمد حسنين هيكل عنه قائلاً: «لا شهادة حسن سيرة وسلوك من أنور السادات ولا صلة مصاهرة مع عبد الناصر تعطيان عِصمة لأحد.. نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضي وضوحاً مقنعاً».
الوضوح المقنع جاء اليوم حيث عادت القضية إلى الواجهة بعد التقرير الذي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية في 26/9/2025 وفيها التوضيح الذي أنصف الرجل.. نعم، كان مواطناً مُخلصاً لبلده وظهرت إلى العلن أسرار كثيرة لم يعلن عنها في حينها. عاد اسم أشرف مروان إلى دائرة الضوء بعد التحقيق الذي نُشر وكشف دوره الوطني في نصر أكتوبر عام 1973. وهو ما أكد الرواية المصرية بشأن تلاعبه وتضليله لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية في تلك الفترة.
كانت الرواية الإسرائيلية منذ عقود تصوره ب(كنز استخباراتي) قدم لتل أبيب معلومات مصيرية ما أثار حيرة واسعة في الأوساط المصرية التي أصرّت على تأكيد دوره الوطني. ويرى عسكريون ومُحللون مصريون أن ما ورد في التحقيق الإسرائيلي الأخير يُعزّز السردية المصرية بدور أشرف مروان الوطني، مُشيرين إلى أن الرواية التي روّج لها (الموساد) لعقود كانت تهدف إلى تضخيم قدراتهم والإيحاء بقوة الوصول إلى دوائر الحكم القريبة. خلص التحقيق الذي استند إلى معلومات استخباراتية ظلت طي الكتمان إلى أن الرجل أرسل إنذارات كاذبة قبل الهجوم المفاجئ في أكتوبر 1973، وكان رأس حربة في عملية خداع مصرية مُتطورة أربكت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وأفقدتها صوابها في الفترة التي سبقت الحرب.
وأنه كان يعمل لصالح مصر طوال الوقت، وتميّز بذكاء وقدرة على كسب ثقة إسرائيل. وأظهرت الوثائق التي خرجت للعلن اليوم أنه بدل أن يقدم المعلومات المصيرية، قدم بالاتفاق مع الأجهزة المصرية معلومات مُضللة أشارت إلى تواريخ مُختلفة وتقييمات مَفادها أن الحرب لن تندلع. ونقلت الصحيفة عن الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية شلومو غازيت قوله في تصريحات نُشرت بعد وفاته «زُرِع مروان في العُمق الاستخباراتي الإسرائيلي واستدرج رئيس الموساد زامير كالغبي وتلاعب به كما أراد، وكان القوة الاستخباراتية المصرية في خطة خداع إسرائيل».
رغم أن هذه الشهادة جاءت مُتأخرة لكنها جاءت لتؤكد صحة الموقف المصري بشأن مُناضل استحق أن تقام له جنازة رسمية بعد اغتياله، وأعلنت مصر بوضوح أنه مواطن شريف قدم لبلاده خدمات جليلة رغم تعنت الموساد ورفضه لهذه الحقيقة، جاء تحقيق الصحيفة الذي نقلته القنوات الإسرائيلية في ذكرى نكستهم عام 1973 ليُقر بالحقيقة الواضحة. وأعلنت مصر أنه كان منذ البداية على تواصل مع المخابرات المصرية التي علمت بأن جهاز الموساد قام بتجنيده، وأوصته بالاستمرار في التواصل معهم وكسب ثقتهم ثم تمرير المعلومات المُضللة.
إن أبرز ما قام به مروان كان قبل حرب أكتوبر مُباشرة، حين أوهم الإسرائيليين بأن الهجوم المصري سيبدأ عند آخر ضوء ليلاً، بينما كان يعلم أن التوقيت هو الثانية ظهراً.. وهو ما أدى إلى حالة ارتباك قصوى داخل القيادة الإسرائيلية لدرجة أن رئيسة الوزراء غولدا مائير كانت تعقد اجتماعاً وزارياً في تل أبيب لحظة انطلاق صافرات الإنذار.
أشار التقرير إلى أن المزاعم التي رددتها إسرائيل على مدى سنوات حول أن مروان كان عميلاً مزدوجاً وكان يعمل لصالح إسرائيل لم تكن سوى محاولة للتقليل من حجم الانتصار المصري. لكن ما تكشّف أخيراً أنصف الرجل وأكد أنه مُناضل زرعته مصر ببراعة وأوقع الموساد في أكبر عملية خداع استراتيجي. تكابرت إسرائيل خوفاً من الاعتراف بتعرضها لهذا الاختلاق المؤلم. وحاولت على مدى سنوات أن تظهره كعميل مُخلص لها.. لكن الحقيقة ظهرت أخيراً بوضوح وباعترافهم.. ولاء أشرف مروان كان دائماً لمصر ولم يقدم شيئاً للعدو سوى التضليل والخداع. أما لماذا نشرت «يديعوت أحرونوت» اليوم هذه الحقائق؟ فالمتابعون يعزون ذلك إلى عملية تصفية حسابات بين الأجهزة الأمنية الداخلية في إسرائيل.
وتبقى الأسئلة.. لماذا ينتحر من يتوقع تكريماً في بلاده؟ ولماذا توقفت الكاميرات عن العمل في ذلك التوقيت وفي منطقة يُفترض أنها مُحاطة بأمنٍ خاص؟ ولماذا انتهت المحكمة في لندن عند عبارة.. «أسباب الوفاة غير معروفة.. وأُغلِق الملف»؟

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد