: آخر تحديث

صراع الممرات الاستراتيجية وتأثيره على الشرق الأوسط والعالم

2
2
2

على تقاطع طرق التجارة القديمة والحديثة، وفي خضم تحولات جيوسياسية متسارعة، يشهد العالم صراعًا محتدمًا على النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي، فبين رمال الشرق الأوسط المتحركة وأمواج آسيا المتلاطمة تتشكل ملامح نظام عالمي جديد تحركه مشاريع اقتصادية عملاقة تتجاوز حدود التجارة لتشمل تحالفات سياسية واستراتيجية معقدة. في قلب هذا التحول يبرز تنافس حاد بين رؤيتين طموحتين لإعادة رسم خرائط النفوذ العالمي: "المشروع الهندوابراهيمي" (IMEC) الطموح الذي يسعى لربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، و"مشروع طريق الحرير" الصيني العملاق الذي يهدف إلى إحياء طرق التجارة القديمة عبر بنية تحتية قارية وبحرية واسعة. هذا التنافس المحموم الذي لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية، بل يمتد ليشمل سباقًا للتمركز وتأمين المواقع الاستراتيجية، يُذكي شرارات القلق في مناطق جيوسياسية حساسة، ويحول تأمين هذه الممرات إلى هاجس وجودي للأطراف المتنافسة. تسعى هذه المقالة إلى الغوص عميقًا في هذا المشهد المعقد وتحليل الانحيازات الدولية المتشكلة تجاه هذين المشروعين، وتأثير هذا التنافس المتنامي على بؤر التوتر الرئيسية في العالم، مع تركيز خاص على منطقة الشرق الأوسط التي تقع في قلب هذه التحولات الجيوسياسية الهامة.

في سياق هذا الصراع المتصاعد، تبرز سلسلة من الأحداث والتحركات التي تنذر بتصعيد حذر وإن كان محدود النطاق. فعلى سبيل المثال، في الأول من نيسان (أبريل) 2025، تحولت سماء اليونان إلى مسرح لاستعراض قوة جوية مهيب جمع تحت جناحه طائرات من دول متحالفة مع واشنطن، في رسالة واضحة تستهدف قوى صاعدة تنافس النفوذ الأميركي، وعلى رأسها الصين وروسيا وإيران. هذا الاستعراض للقوة، الذي يتزامن مع الترويج لمشروع "IMEC" كمنافس استراتيجي لطريق الحرير الصيني، يكشف عن تكتل دولي يسعى لتأمين هذا الشريان الاقتصادي الجديد الذي يمر بمناطق جيوسياسية شديدة الاشتعال. ونتيجة لذلك، فالوصلة البحرية الحساسة الممتدة من الخليج إلى حيفا تجعل لجم النفوذ الإيراني المتصاعد ضرورة ملحة في نظر القوى الغربية وحلفائها، وهو ما يفسر جزئيًا التعزيز العسكري الأميركي اللافت في المنطقة، والتقارير الاستخباراتية التي تتوقع ضربات إسرائيلية محتملة على المنشآت النووية الإيرانية. ومع ذلك، فإنَّ دوافع هذه التحركات تتجاوز المنافسة التجارية البحتة، وبالغوص أعمق نكتشف سعيًا للسيطرة على المعادن الإستراتيجية والطرق الحيوية المؤدية إلى شمال أوروبا في ظل التغيرات المناخية المتسارعة.

وعلى الجبهة الأوروبية، ورغم التركيز على الحرب في أوكرانيا، تتجه الجهود نحو بناء درع دفاعي في بولندا، بينما تتبع روسيا استراتيجية لتعميق الخلافات بين واشنطن وبروكسل، محاولة استغلال نقاط ضعف أوروبا. وفي المقابل، يغلي بحر الصين الجنوبي بتوترات متصاعدة، حيث تسعى بكين لفرض هيمنتها البحرية في مواجهة تحالفات تقودها واشنطن. هذا التوتر العسكري يتداخل مع حرب اقتصادية غير معلنة تجسدت في مراجعة الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين وفرض رسوم إضافية. وفي هذا السياق، يفسر التقارب الصيني مع إيران الذي يهدف إلى حماية مصالح بكين في منطقة الخليج العربي الحيوية.

في قلب هذا المشهد المعقد يبرز التنافس بين "المشروع الهندوابراهيمي" و"مشروع طريق الحرير" كقوتين اقتصاديتين وجيوسياسيتين متنافستين تسعيان لإعادة تشكيل النظام العالمي. فمن جهة، يهدف الأول إلى ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط بدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات، بينما يسعى الثاني، بقيادة الصين، إلى إحياء طرق التجارة القديمة عبر بنية تحتية واسعة تربط آسيا وأوروبا وأفريقيا. هذا التنافس لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية، بل يمتد ليشمل تحالفات سياسية وإستراتيجية دولية، مما يؤثر بشكل كبير على منطقة الشرق الأوسط.

الانحيازات الدولية وتجلياتها:
تتضح الانحيازات الدولية تجاه هذين المشروعين من خلال مواقف وسياسات مختلف الأطراف الفاعلة:

1. انحياز الديمقراطيين واليسار الأميركي نحو مشروع طريق الحرير:
يمكن تحليل هذا الانحياز المحتمل من خلال التركيز على التعاون الدولي كأداة لحل التحديات العالمية، ورؤية مختلفة للتنافس مع الصين ترتكز على المشاركة الاقتصادية بدلًا من المواجهة الصريحة، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية المحتملة للشركات الأميركية من خلال المشاركة في مشاريع البنية التحتية الضخمة التي تتضمنها مبادرة الحزام والطريق. على سبيل المثال، نجد تصريحات بعض الشخصيات الديمقراطية التي تؤكد على أهمية الحوار والشراكة مع الصين في القضايا العالمية، وترى في مبادرة الحزام والطريق فرصة لتعزيز التنمية المستدامة.

2. انحياز اليمين الأميركي وترامب نحو المشروع الهندوابراهيمي:
يرجع هذا الانحياز بشكل أساسي إلى التركيز على احتواء النفوذ الصيني المتزايد واعتباره تهديدًا للمصالح الأميركية، بالإضافة إلى دعم الحلفاء الإقليميين الرئيسيين مثل إسرائيل والهند، ورؤية إستراتيجية مختلفة للتحالفات في المنطقة ترتكز على مواجهة التحديات المشتركة مثل النفوذ الإيراني. ويتضح ذلك في سياسات ومواقف إدارة ترامب التي عززت العلاقات مع إسرائيل والهند، وسعت لتشكيل تحالفات إقليمية لمواجهة إيران والصين، بالإضافة إلى الترويج العلني لمشروع "IMEC" كمبادرة بديلة لطريق الحرير.

3. انحياز بريطانيا نحو مشروع طريق الحرير:
يمكن تفسير تبني بريطانيا لموقف داعم لمبادرة الحزام والطريق من خلال المصالح الاقتصادية والتجارية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسعيها لتنويع شركائها التجاريين، بالإضافة إلى رؤية إستراتيجية للعلاقات مع الصين كقوة اقتصادية عالمية صاعدة، وإمكانية الاستفادة من الاستثمارات الصينية في تطوير البنية التحتية البريطانية. ويتجلى هذا الانحياز في مشاركة بريطانيا في بعض المبادرات المرتبطة بطريق الحرير، وتصريحات لمسؤولين بريطانيين تعبر عن استعداد بلادهم للتعاون مع الصين في هذا المشروع.

خلاصة القول، يرسم لنا هذا المشهد المعقد والمتداخل صورة بانورامية لعالم يقف على أعتاب تحولات جيوسياسية عميقة. فالشرق الأوسط، ببؤر توتره المتعددة وصراعاته المتفاقمة، يقع في قلب هذا التنافس المتصاعد بين "المشروع الهندوابراهيمي" وطريق الحرير، حيث تتشابك المصالح وتتضارب الطموحات. وبالمثل، يشهد شرق آسيا تصاعدًا في التوترات يُنذر بمواجهة باردة قد تتحول إلى صراع حقيقي في أي لحظة. وفي الشمال الأوروبي والقطب الشمالي، تتأهب القوى الكبرى لمعركة فاصلة على النفوذ والموارد.

إنَّ صراعات اليوم ليست سوى سباق محموم للتمركز، ومحاولة كل طرف تأمين موقعه قبل الانفجار الكبير القادم. وبالنظر إلى المستقبل، فإنَّ مسار هذا التنافس بين "IMEC" وطريق الحرير سيشكل إلى حد كبير ملامح النظام العالمي الجديد، وسيترك تداعيات عميقة على استقرار منطقة الشرق الأوسط ومستقبل دولها التي تعاني بالفعل من صراعات إقليمية ودولية معقدة. ولذلك، فإن فهم هذه الانحيازات الدولية وتفاعلاتها سيكون حاسمًا في توقع مسارات الأحداث وتحديد التحديات والفرص التي ستواجه المنطقة والعالم في السنوات القادمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.