في خضم التحديات التي تواجه قطاع الإسكان، تلوح في الأفق مبادرات كريمة وتوجيهات رشيدة تسعى لإعادة التوازن إلى السوق. لكن، هل تكفي هذه الجهود لكسر حلقة الأسعار المرتفعة للأراضي السكنية وتكاليف البناء الباهظة التي تثقل كاهل المواطن؟ نتناول جذور المشكلة، ونستعرض الحلول المقترحة، بما في ذلك المبادرات الحكومية، بهدف تحقيق العدالة والاستقرار في سوق الإسكان.
وهناك سؤال في البداية، لماذا أصبحت أسعار الأراضي السكنية مرتفعة بشكل غير منطقي؟ في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجه المواطن، بات امتلاك منزل حلمًا بعيد المنال لكثيرين، خاصة مع الارتفاع الكبير في أسعار الأراضي السكنية، على الرغم من أن هذه المخططات وقطع الأراضي حكومية، مما يثير التساؤل حول الأسباب الحقيقية وراء هذا التضخم السعري.
لم يتوقف الأمر عند سعر الأرض، بل امتد ليشمل تكلفة البناء الباهظة، التي لا تتناسب إطلاقًا مع دخل الفرد، مما يجعل امتلاك منزل مستقر رفاهية مستحيلة لدى الأسر ذات الدخل المتوسط أو المنخفض. إنَّ رب الأسرة ذو الدخل المتدني يجد نفسه في مواجهة معقدة؛ فهو غير قادر على بناء منزل بسيط يأويه وعائلته، وكلما كبر في السن تقل فرصه في الحصول على قرض تمويلي، كما أنَّ راتبه التقاعدي لا يكفي حتى للحد الأدنى من متطلبات السكن اللائق، وإذا أراد التسجيل في برنامج الإسكان التنموي الخيري، فإنه يصطدم بالشروط المعقدة التي لا تتناسب مع وضعه المالي، إذ يُشترط أن يكون مسجلًا في الضمان الاجتماعي، مما يستبعد شريحة واسعة من المواطنين الذين لا يندرجون ضمن هذه الفئة، لكنهم لا يزالون بحاجة إلى حلول إسكانية واقعية.
أما المواطن ذو الدخل الأقل من المتوسط، فإنَّ حلم امتلاك منزل يتقلص من فيلا إلى شقة، ومع استمرار سياسات التطوير العقاري الحالية، فإنه يواجه عقبات تحول بينه وبين تحقيق الاستقرار السكني، إذ تعتمد الجهات المعنية بالإسكان على تقديم الأراضي لشركات التطوير العقاري، والتي بدورها تعمل وفق نظام استثماري بحت يهدف إلى تحقيق الربح، مما يؤدي إلى رفع قيمة الأرض بعد احتساب تكاليف التطوير، فينتقل العبء تلقائيًا إلى المواطن الذي يدفع فرق الأسعار المرتفعة.
الشباب حديثو التوظيف وأصحاب المرتبات العالية هم الفئة القادرة على امتلاك المنازل، حيث يستفيد الشباب من امتداد فترة القرض إلى 25 عامًا، مما يجعل التمويل العقاري متاحًا لهم، أما الموظفون الكبار ممن تجاوزوا 35 عامًا أو حتى 50 عامًا، فتعتمد البنوك في تمويلهم على مستحقاتهم نهاية الخدمة، مما يمكنهم من تقديم دفعة أولى كبيرة تقلل سنوات الاقتراض، بينما يقع كبار السن الذين لا يملكون راتبًا شهريًا مستقرًا في فجوة، إذ لا يمكنهم الحصول على قرض عقاري بسهولة، ولا تنطبق عليهم شروط الإسكان التنموي، مما يتركهم بلا خيارات حقيقية.
كما أن هناك سياسة أخرى تُطبق في بعض الحالات، حيث تقترح الجهات الممولة أن يتحول خيار السكن من فيلا إلى شقة صغيرة، استنادًا إلى عدد الأفراد المتبقين في المنزل، فمثلًا لو كانت الأسرة مكونة من أب وأم وستة أبناء متزوجين، فإنَّ البنك ينظر فقط إلى الأب والأم كمقيمين أساسيين في المنزل، متجاهلًا احتياجات الأسرة الممتدة، متناسيًا أنَّ الأبناء والبنات والأحفاد لهم الحق في زيارة منزل العائلة والتجمع في بيئة سكنية مريحة.
إحدى الحلول التي يمكن دراستها وتطويرها هي إعادة النظر في دور الأمانات والبلديات في تخطيط الأراضي السكنية، فمن الضروري أن تعود البلديات إلى أسلوبها السابق قبل ظهور شركات التطوير العقاري، حيث كانت تقوم بتخطيط الأراضي بنفسها ثم توزيعها على المواطنين بأسعار معقولة ومناسبة، مما يخفف من حدة التضخم العقاري ويساعد المواطنين على امتلاك مساكنهم. هذا النهج كان يُطبق في السابق، حيث كانت البلديات تقدم أراضي المنح دون الحاجة إلى تدخل شركات التطوير العقاري، مما كان يسهم في تخفيض تكلفة البناء، إلى جانب تعزيز دور المؤسسات الصغيرة في قطاع المقاولات، مما يخلق تنافسًا صحيًا بين المقاولين، ينتج عنه خيارات بناء متنوعة بأسعار مقبولة.
هذه الإصلاحات لا تعني إلغاء دور شركات التطوير العقاري، بل إعادة توجيه اختصاصاتها، بحيث تتركز مهامها في العقارات التجارية، الفندقية، والمشروعات الكبرى، بينما يكون الإسكان المخصص لذوي الدخل المحدود تحت إدارة الجهات الحكومية لضمان ألا تتضخم التكاليف بشكل يرهق المواطن.
وفي سياق الجهود المبذولة لمواجهة تحديات القطاع العقاري، صدرت في رمضان الماضي الموافقة الكريمة على ما درسته الهيئة الملكية لمدينة الرياض، وتوجيه ولي العهد برفع الإيقافات عن أراضي شمال مدينة الرياض، وهو إجراء جاء بعد مرحلة من التخطيط العمراني الدقيق للمنطقة، بهدف تعزيز مكانة الرياض كإحدى أفضل العواصم العالمية للحياة والعمل. تؤكد الإجراءات التي وجّه بها ولي العهد لعدد من الجهات المعنية بشأن أراضي المدينة مدى التزام القيادة الرشيدة بتوفير حلول فعالة وسريعة لمواجهة تحديات القطاع العقاري بشقيه السكني والتجاري، وتحقيق الاستقرار في السوق وبما ينعكس إيجابيًا على الأفراد والقطاع الخاص.
ومع مبادرة ولي العهد الأخيرة التي قدمت مليار ريال لدعم قطاع الإسكان، فإن الفرصة سانحة لإطلاق مثل هذه المبادرة، وإعادة النظر في سياسات توزيع الأراضي وأساليب البناء، لضمان توفير مساكن بأسعار مناسبة تعكس احتياجات المواطنين الحقيقية، دون أن تكون العبء الأكبر الذي يعرقل مسيرة استقرارهم المعيشي. في ظل التحديات المستمرة التي تواجه سوق الإسكان في السعودية، يصبح من الضروري إعادة النظر في آليات توزيع الأراضي وسياسات البناء لضمان توفير مساكن بأسعار معقولة تتناسب مع دخل المواطن. إن استمرار ارتفاع أسعار الأراضي والتكاليف البنائية دون وجود حلول عملية سيزيد من صعوبة امتلاك الأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط لمنزل خاص، مما يستدعي تدخل الجهات المعنية لتحقيق توازن اقتصادي وعقاري أكثر عدالة.
إعادة دور البلديات في تخطيط الأراضي السكنية وتوزيعها مباشرة على المواطنين بأسعار مناسبة، كما كان يحدث في السابق قبل ظهور شركات التطوير العقاري. توجيه شركات التطوير العقاري نحو المشاريع التجارية والفندقية بدلاً من الاعتماد عليها في الإسكان للمواطنين، مما يقلل من الرسوم الإضافية التي ترفع قيمة الأرض بشكل غير مبرر. تحفيز المقاولات الصغيرة والمتوسطة عبر خلق بيئة تنافسية في قطاع البناء، مما ينعكس إيجابيًا على الأسعار ويمنح المواطنين خيارات متنوعة تناسب احتياجاتهم. تعديل سياسات القروض السكنية بحيث توفر حلولًا أكثر مرونة لكبار السن ومنخفضي الدخل، دون أن تكون عملية التملك محدودة فقط على فئات محددة. الاستفادة من مبادرات الدعم الحكومي، مثل مليار ريال المخصصة للإسكان، بالإضافة إلى التوجيهات الكريمة برفع الإيقافات عن أراضي شمال الرياض، لتطوير حلول شاملة تسهم في تقليل التكاليف وتمكين المواطنين من امتلاك منازلهم بسهولة.
إنَّ امتلاك السكن ليس رفاهية، بل حقٌ أساسي لكل مواطن، لذا فإن إعادة تقييم السياسات العقارية وإيجاد حلول أكثر استدامة سيكون له أثر كبير على مستقبل الإسكان في المملكة، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويضمن أن يبقى حلم امتلاك منزل في متناول الجميع. السكن حق، وليس امتيازًا، والمواطن يستحق حلولًا تعيد إليه حلم امتلاك منزل دون أن يكون ذلك مرهونًا بشروط تعجيزية.