: آخر تحديث

حين تحدثت مع العملاق النقاش

8
9
7

تحملني الذكرى إلى ما قبل أربعين عاماً ونيّف، وبالتحديد إلى الأول من شهر ديسمبر 1983، حينها كنتُ ما زلتُ طالباً في الصف العاشر الثانوي في ثانوية عمر بن الخطاب. في تلك الفترة كانت بدايات عشقي لصاحبة الجلالة التي طالما حلمت بها، وكانت بالنسبة لي الهدف والطموح، ولا شيء سواها، لا سيما أنَّ الرغبة الشديدة كانت فوق ما كنتُ متوقعاً حيال ولعي بهذه المهنة، التي كانت بالنسبة لي الشيء الكثير، ولا شيء آخر يوازيها أو يفوقها.

في ذلك العام، كنت أتابع وبشدّة ما يُنشر في الصحافة المحلية والعربية، فضلاً عما يُنشر في الدوريات من مواد دسمة تتعلق بالإنسان العربي وبالمجتمع بصورة عامة، ومنها العربي الكويتية، الفيصل السعودية، الدوحة القطرية وغيرها من الدوريات التي كانت تُزيّن واجهة مكتبة "الخابور" في الرّقة، مسقط رأسي، والتي كانت تحتضن تلك الكوكبة من الدسم الذي لا يخلو من التعفّنات في بعض ما يُنشر، ولا يليق بما كنا نتمنى.

في تلك الفترة من الزمن الجميل، كانت الرغبة تحدونا. وبالرغم من انطلاقي في عشق الكلمة وتعلقي بالصحافة الرياضية، كنتُ أُبادر - إلى جانب ذلك - بإرسال مواد ثقافية مصوّرة عن مدينة الرّقة، المعروفة باسمها وتاريخها الموغل في القدم. أضف إلى كونها مدينة أثرية تتحف بالمواقع الكثيرة والتلال والمغاور والقلاع والمدن الأثرية، فأعددتُ مادة صحفية عن الرّقة، وأرسلتها مرفقة بعدد من الصور الملوّنة إلى إدارة تحرير مجلة الدوحة. وبعد إرسالها بالبريد المسجّل، خطر ببالي، بعد فترة زمنية قصيرة، الاتصال برئيس تحرير المجلة في الدوحة، وكان حينها المغفور له محمد رجاء النقاش، الناقد العربي الأصيل، وابن المهنة، وكما يُقال في مثلنا الدارج: "على سن ورمح"، الصحفي المتفرّد فيما يقدمه من مواد تُبهج القلب والروح في الدوحة وغيرها من المجلات التي كان يكتبُ فيها، ويُرحَّب بقلمه في أي وقت، بل وتحولت أغلب المجلات إلى كسبه في صفوفها لما يقدمه من مخزون ثقافي قلّ نظيره.

كان أول من اكتشف الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وكتب عنه بحماسة شديدة، ما ساهم في تقديمه إلى الجمهور العربي كشاعر استثنائي. كما كان المبشّر بالروائي السوداني الطيّب صالح، قبل أن يُصبح واحداً من أعمدة الأدب العربي المعاصر. ولم يقتصر اهتمام النقاش على الأسماء الكبيرة، بل كان داعماً للعديد من المواهب الناشئة، مثل الشاعرة المصرية ناهد طه عبد البر، التي غادرت العالم مبكراً، لكنه كان أول من ألقى الضوء على موهبتها.

وكثير منهم أثْرى الساحة العربية بإبداعاتهم، ووضعهم على السكة الصحيحة، وكان لهم صولات وجولات غنية في الساحة العربية، وظلت مكانتهم تتلألأ في سمائنا العربية، وما زالت إلى اليوم ماثلة أمام أعين الجميع.

وجاء قرار الاتصال هاتفياً بالكبير رجاء النقاش، لم يكن سهلاً، فكان فيه مخاطرة كبيرة، خاصةً وأنه لم يكن من المثقفين العاديين، كما ذكرنا، أو مجرد رئيس تحرير مجلة عادية أسوةً بغيره من رؤساء التحرير الكبار، بل كان متميزاً على كافة أقرانه، ومتمكناً، وفي الوقت نفسه تراه إنساناً متواضعاً جداً، لطيفاً في تعامله، حسن الخلق، مهذباً في كل كلمة ينطق بها.

اتصلتُ به من بيت أحد الأصدقاء، فردّ عليّ بتواضعه الجمّ، وبعد التأكد من صوته، كان جوابه يحمل كل بَذار الاحترام والتقدير والتبجيل. سألته عن مصير مادة صحفية سبق أن أرسلتها إلى المجلة قبل فترة، فعرفني أنني من الرّقة، من المدينة التي أنجبت الراحل عبد السلام العجيلي، فرحّب بي كثيراً وأشاد بما أرسلت، وأكّد لي في حينها أن ما أرسلته سينشر لاحقاً في العدد القادم من الدوحة، ورحّب بكل ما أُرسل مستقبلاً، وأن المجلة أبوابها مفتوحة لكل راغب، وليس محصوراً ما يُنشر بكاتب بعينه، فالمادة الجيدة تفرض نفسها، وكيف وأنت من مدينة العجيلي.

شكرته كثيراً على تشجيعه لي ودفعه إيّاي نحو إنتاج المزيد من المواد للمجلة ليُصار إلى نشرها مستقبلاً.

في الواقع، كانت إجابة الكبير رجاء النقاش على اتصالي، واستماعه إلى كل كلمة قلتُها، وأنا الشاب الصغير الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، شجعتني أكثر على الاستمرار في الكتابة، والاستمتاع إلى ما قاله، لأنه إنسان نبيل، شفاف، مثقف، عملاق، من المستحيل أن يحلّ محلّه إنسانٌ آخر بديلاً عنه. إنّ مجرد الحديث معه، والترحيب الذي لقيته من مثقف متواضع، كان وحده كافياً؛ فكلماته خلقت بالنسبة لي المستحيل لتجاوز الصعاب وخلق الإبداع، والبحث عن مواد صحفية جديدة تستحق النشر في مجلة الدوحة، التي ظلّت وما زالت، وإن توقفت عن الإصدار في فترة زمنية ما، من المجلات المتميزة التي أضاءت وأنارت الطريق أمام جيل من الكتّاب والمثقفين والقرّاء العرب في كل مكان. وكان الناس ينتظرون إصدارها الشهري بحبٍّ كبير.

وبعد إغلاق سماعة الهاتف، انتابني شعور كبير، وغبطة عظيمة، وبحبٍّ شديد، من الاتصال بقامة لها اسمها ومكانتها، ويشرف على رئاسة تحرير مجلة لها وقع خاص لدى المثقفين العرب. وأكد لي الأستاذ الراحل – رحمه الله – أن المادة التي أرسلتها عن الرّقة ستُنشر في عدد ديسمبر المقبل، وبالفعل، صدق ما وعد به، فقد نُشر الاستطلاع المصوَّر في المجلة بعنوان: "الرّقة.. مدينة الرشيد التي تغنّى بها الشعراء"، وأتبعه نشر مقالة أخرى بعد حوالي شهرين من نشر الاستطلاع، عن مدينة الرقة، بعنوان: "رصافة هشام.. كنز أثري تحت الرمال".

وكانت بداية الألف ميل، الذي بادر بتشجيعه والتصفيق له شخصياً كاتبٌ وعملاقٌ كبير، يستحق، في أن أقول: إنَّ رجاء النقاش برز كواحد من أكثر النقاد تأثيراً وثراءً فكرياً. فقد كان ناقداً يمتلك بصيرة ثاقبة وروحاً محبة، لا ينظر إلى النصوص بعين الناقد التقليدي المتسلط، بل بروح المحبّ، الباحث عن الجمال والإنسانية داخل كل عمل إبداعي. لم يكن النقد بالنسبة له مجرد عملية تحليلية أو أكاديمية جامدة، بل كان مغامرة فكرية وإبداعية، يضيء من خلالها المناطق المخفيّة في النص، حتى يصبح النقد ذاته لوناً من ألوان الإبداع.

لم يكن النقاش ناقداً تقليدياً يسعى فقط إلى تشريح الأعمال الأدبية وتصنيفها، بل كان مفكراً مهموماً بأسئلة الوجود الكبرى، يتأمل بعمق في قضايا السعادة والرضا والعدالة، ويرى أن العالم مليء بالتناقضات التي تجعل من الصعب تحقيق التناغم الكامل بين الأقوياء والضعفاء. كانت هذه الرؤية الفلسفية العميقة حاضرة في كل كتاباته، إذ كان يسعى إلى كشف الجوانب الإنسانية في الأعمال الأدبية، واضعاً معياراً جديداً للنقد، حيث لا يكون التحليل والتقويم هدفاً نهائياً، بل أداة لإشراك القارئ في تجربة جمالية وفكرية أعمق.

أحد أهم ما يميّز مدرسة النقاش النقدية هو رفضه لتحويل النقد إلى لوغاريتمات وأحاجي معقدة تعزل القارئ عن النص، فقد كان يرى أن النقد الحقيقي يجب أن يكون جسراً بين العمل الأدبي وجمهوره، وليس حاجزاً يزيد من تعقيده. لقد قرأ الأعمال بروح محبة، ولم يكن ناقداً متسلطاً يتخذ موقف القاضي، بل كان شريكاً في الإبداع، يسعى إلى تسليط الضوء على مكامن الجمال والفرادة في كل عمل أدبي.

لم يكن النقاش ناقداً فقط، بل كان أيضاً رائداً في كتابة السيرة المبتكرة، حيث استطاع أن يمزج بين رحلة الحياة ورحلة الفكر، ليقدّم لنا نصوصاً تجمع بين التحليل الأدبي والسرد الإبداعي، ما جعل قراءاته للأدباء والشعراء ليست مجرد دراسات نقدية، بل تجارب حيّة تنبض بالروح والتفاصيل الإنسانية. وبهذا الأسلوب، لم يكن يسرد سيرة المبدعين فحسب، بل كان يكتب عنهم بحب ووفاء، وكأنهم جزء من حياته الشخصية.

كان رجاء النقاش بمثابة "طوق نجاة" لكثير من الأدباء والشعراء الذين وجدوا فيه داعماً ومؤمناً بموهبتهم. لم يكن مجرد ناقد يسلّط الضوء على الأعمال الأدبية بعد نضوجها، بل كان يبحث عن المواهب في مراحلها الأولى، يكتشفها ويؤمن بها ويدافع عنها.

وكان يرى أن النقد ليس مجرد تحليل وتقويم، بل هو عملية إبداعية مضاعفة، تسعى إلى إغواء القارئ وإقناعه بوجود جوانب جديدة في العمل الأدبي لم يلتفت إليها أحد من قبل. وقد برع في هذا الدور، حيث لم يكن النقد عنده مجرد تعليقات على النصوص، بل كان إضافة إليها وامتداداً لها، ما جعل كتاباته النقدية أشبه بالنصوص الأدبية التي تحمل في طياتها روحاً خاصة وإحساساً عميقاً بالجمال. ولم يكن ناقداً يكتب من برج عاجي، بل كان قارئاً شغوفاً يقف بإجلال أمام العظماء الذين تحدّوا الظروف وقادوا البشرية نحو النور. وقف بإعجاب أمام طه حسين، الطفل الضرير الفقير الذي تجاوز كل العوائق ليصبح قامة فكرية عظيمة، وأمام عباس العقاد، الذي رغم حرمانه من التعليم النظامي، استطاع أن يفرض نفسه كأحد أعمدة الفكر العربي. كذلك تأمّل في حياة عبد الحميد الديب، الشاعر الموهوب والصعلوك البائس، كما انبهر بتولستوي، الذي وهبته الحياة الموهبة والجمال العقلي، لكنه عانى داخلياً حتى فكّر في الانتحار.

رجاء النقاش لم يكن مجرد ناقد، بل كان عاشقاً للأدب، يؤمن أنَّ الحب هو مفتاح المعرفة، وأن النقد يجب أن يكون انعكاساً لهذا الحب. لم تكن علاقته بالمبدعين علاقة ناقد بأديب أو أستاذ بتلميذ، بل كانت علاقة حبيب بمحبوب، يشعر بفرح حقيقي عندما يكتشف موهبة جديدة، ويجعل صاحبها يشعر وكأنه قد وجد من يؤمن به دون شروط.

لقد كان طوق نجاة، ليس فقط للمبدعين الذين ساندهم، بل أيضاً لقرّائه الذين وجدوا في نقده نافذة واسعة تطل على عالم الأدب بجماله وتعقيداته. وبهذا الإرث النقدي العظيم، يظل اسمه حاضراً في ذاكرة الأدب العربي، ناقداً وإنساناً نادراً، عشق الجمال وعاش لينتصر له.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.